101363-buchcover_vom_sudanischen_autor_emad_blake_verlag_moment_books_and_publications

ماذا يعني أن أقرأ وأكتب الأدب؟

الركون إلى خطاب أرثوذكسي ودوغمائي يسد مسارات التفكير وتحريرنا لن يبدأ إلا من حيث نتعلم كيف نقرأ، كما يرى الروائي السوداني عماد البليك. محمد بدوي مصطفى حاوره عن كيفية قراءة الأدب وكتابته مستحضرا المثل الألماني القائل “في السكينة تكمن القوة” وآملاً في مواصلة الحديث معه حول معمار الرواية وبنائها.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

مدخل: سكون الحكماء الذي يسبق عواصف السرد – اشتعلت جذوة الشوق للحديث مع الأديب عماد البليك مجددًا من خلال ندوة أدبية عن الرواية. حقيقة يا سادتي أراني شديد الفخر والإعجاب بهذا الشخص وبدأبه الخارق للعادة وبعلمه وخلقه الجميل. فما من شخص عرفه أو احتكّ به إلا ووصفه بالدؤوب المثابر والطموح، وكل ذلك في هدوء وسكينة الحكماء والمثل الألماني يقول (في السكينة تكمن القوّة).

حكى لي على الماشي من خلال مكالمتنا التلفونية أنّ أحد أساتيذه بجامعه الخرطوم طرح عليه فكرة أن يتخذ له سكرتيرة خاصة، لنتخيل يا سادتي اهتمامات والتزامات هذا الشاب وهو لم يكن قد تخرج بعد من الجامعة، حيث التحق بكلية المعمار وتخرج فيها من بعد، وكان هو حقيقة من نوابغ الشهادة الثانوية بالسودان ولو لا ذلك لما استطاع بلوغ أعتاب هذه الكلية المرموقة التي تنافس عليها في الزمن الجميل مئات الآلاف من الطلاب وحدث ولا حرج.

وبالرجوع إلى اقتراح أستاذه ذاك، في لقاء عابر بين طرقات الجامعة، أجد أن الأستاذ قد لخّص في جملة عابرة وباختصار حياة واهتمامات هذا الشاب في حقبة الدراسة بالجامعة. ولنتخيل حياته الآن بعد التخرج وترك مجال عمارة المنشآت إلى سبيل عمارة الأدب والرواية. لقد ترك خريج هندسة المعمار كل شيء من أجل الكلمة، نعم، الكلمة بكل بساطة: هذه المفردة التي على حد قول الحكماء أنجع في وقعها من حدّ السيوف. إنّه سكون الحكماء والأدباء الذي يسبق عواصف السرد والحكايات.

أمّا في مجال “الحكاوي”، فأجد أن الله قد حباه بملكة السرد والروي المفعم بالمعلومات الوفيرة وفوق هذا وذال بسلاسة الاسترسال السهل الممتنع. فهو لا يفتأ أن يشرع في الحديث عن قضية إلا أخذك دون أن تشعر على متن براقه وعلى بساط الريح، وتجوّل بك أفلاك الآداب ودنيا العلوم المتشعبة بكل سهولة وبساطة وبتواضع العلماء. في حديثي الأخير معه من أجل التحضير لهذه السلسلة سلك بي دروبًا ما كنت أتصوّر أن أسلكها في هذه المكالمة السريعة المتسارعة بسبب التزامات الحياة العديدة والمضنية.

لذلك فمن الأسباب الملحّة التي حتمت عليّ أن أسأله أولها عن ماهية الأدب وعن أهميته في رقيّ الشعوب ومن ثمّ كيف يصبح الفرد منّا أديبا أو راويًا وما علاقة كل ذلك بشغف القراءة مثلًا وبحقول العلوم المتباينة، بالأخص الفلسفة كعلم أو كنهج إنساني حياتي يجهله الكثيرون. باختصار شديد وفي فترة وجيزة تشعبت بدخيلتي الأفكار والتساؤلات وتكاثفت وهممت أن ألقي بها في غياهب الجبّ، لكني رأيت برهان ربي في أن أسال الأديب عماد البليك لأن تجربته في هذا المجال حقيقة ودون مراء فريدة واستثنائية على حد سواء. فاركبوا معنا براق الأدب والسرد والرواية لنستبين بعض أوجهه راجين أن نسلط الضوء على العديد من جوانبه، من خلال سرد ونقاش متواصل مع الأديب عماد البليك. 

***

عوالم الرواية

قبل أن ندخل في الحديث عن الرواية وبنائها، أود أن أتعرف على هذا الرجل الذي سميته في خيالي “معماريّ الرواية”. حدثنا عنك وعن هذه المسيرة المضنية الشيقة على حد سواء، مسيرتك من السودان إلى الخليج، ومن دواخل المتخيل لما نسميه تاريخنا إلى فلسفة الحكاية ومحاورها المتشعبة. عماد البليك معماري من الطلاب المتفوقين في السودان، ترك فن العمارة من أجل فنّ بناء عمارة الرواية والأدب إن صحّ التعبير، كرّس مشروع حياته لبناء إنسانيته المعرفية والتغلغل في مجال الأدب والفلسفة والتاريخ، ما هي الدوافع؟

 عماد البليك: ليس من السهل أحيانا أن نفهم حقيقة الدوافع التي تحركنا لفعل الكثير من الأشياء في الحياة، لدرجة أنه من الممكن القول بأن حياة الإنسان هي سلسلة من اللحظات المتصلة التي تقوم على الصدفة أو الفجائية. أي بقدر ما يبدو العالم منظما وقائما على نواميس في الحركة والتجدد والتغيير، إلا أنه في الذات نفسه ليس سهلا الإدراك، كما أن القوانين إن وجدت في نظريات فهم الطبيعة والكون إلا أن فهم الأنساق الاجتماعية وتحولات الذات ليست بالأمر الهين، هذا ينطبق على الكل. أنا قد أحاول تفسير دوافعي وطريقتي، لكن حقيقة لا أقدم إجابة، بقدر ما أقدم تصورا أو محاولة للتأويل، إذ من أصعب الأشياء في هذا العالم أن تفهم لماذا تحرك الشيء المعين للاتجاه المحدد وهكذا. الآن وخارج اللحظة التي تقوم على الدوافع وبنيتها، ومن تأويل لحظي ومعرفة لذاتي فيها شيء من الشك والظنية، أقول بأن خياراتي كانت محددة سلفا من طفولتي ولحظات البدايات وأنا متعلق بالكتابة والقراءة والكتب عموما، سؤالي المبكر عن الأنا والعالم وكينونة الذات، تلك الأسئلة المتصلة بلا نهاية التي تحيل دائما إلى محاولة إدراك قوانين الذات والوجود وتغوص بعيدا في الجدليات المعقدة حول جدوى الوجود الإنساني في حد ذاته.

غلاف إحدى روايات الروائي السوداني عماد البليك فلسفة كتابة الرواية. Buchcover vom Sudanischen Autor Emad Blake Verlag Moment Books and Publications
“لسنا إنسانيين إلى اليوم كما ينبغي” وَ “كلمة أدب لا تحيل إلى المتحقَّق، إنما التطلع الذي يجب أن يحدث ذات يوم”: يقول الروائي السوداني عماد البليك إن “التجربة الروائية كما أفهمها وأمارسها هي رؤية لهذا العالم الذي يصعب إحكامه أو السيطرة عليه بأي شكل كان، والمفكر أو الروائي أو الفنان العارف، لنقل الذي يصل طور العرفان، يكون قد فهم ذلك جيدا، وأصبح لا يُساءل الحضور بل الغياب، ويدرك أن لاهوته الشخصي قد يكون فيه صورة مصغرة للاهوت العالم الكبير، وارجع لكبار المتصوفة ستجد هذا المعنى، وستفهم أن علاقتهم مع العالم ومع اللغة تأخذ بؤرتها أو مركزها من هذا الباب المفتوح لمن أراد”، ويضيف: ” الأدب بشكل عام يبدأ من وله وشغف شخصي، إذا لم يتوفر لا يمكن لك أن تتقدم خطوة للأمام، بمعنى أنه ليس كبعض العلوم المهنية البحتة، التي تتطلب التدرب على مهارات معينة لتكون بارعا”.

متصل بالسؤال السابق: وهل نجحت خطة الانتقال من عمارة المكان إلى عمارة الأدب ما هي المنافع والمساوئ؟

عماد البليك: بذات المنطق السابق، ولكي أكون صادقا معك، أنا لست مقتنعا بكثير من الأشياء التي فعلتها، ليس لأني غير متواءم أو صادق معها، فهي قد حدثت وانتهت. وتم ذلك بإرادة مني بشكل أو بآخر. ما يزعجني هو الانتباه المتأخر، لنقل، لبعض الأمور التي كان بإمكاني أن أنظر إليها بشكل مختلف لو أني عدت للوراء. لا أميل كثيرا للاطراء على التجربة الذاتية، وأعتقد أن الإنسان يمكن أن يعيش حيوات متعددة ويخرج في كل مرة باحتمالات مغايرة تجعله يكتشف أن موقعه في العالم قد يكون جيدا، لكن هل هو ما خطط له أو أراده. هنا سوف أقول لك بأنها ليست خطة، هي مسار حدث، قدرية من نوع ما، أو لنقل أنه قانون لا يزال مستترا لم تتوصل إليه القدرات العلمية، أعتقد بدرجة كبيرة أن الكون داخل نظامه يتحكم في كل شيء، وهو أمر شديد التعقيد. ما جرى أن عمارة المكان بشكل صريح أفادتني في تركيب الأشياء بنظام وألفة ومنحتني بنائية تماسكية للنصوص والأفكار، وهي ستظل لحظية بتحول الذهن لمعارف جديدة. أما عن السوء، فهو قانون المنطق الذي تحاول أن تصنعه العمارة باعتبارها تسعى لأبنية تقوم على التجذر في الموقع أو المكان، كما هو واقع الأشجار، وهذا لا يصلح مرات في الأدب، إذ تحتاج إلى مزيد من الفوضى والعبث، هذا ممكن حتى في العمارة، لكن بحدود تشكلها معايير العمران في كونه صناعة اقتصادية، وليست مجرد نسيج من الفكر على الورق. لهذا فقد حاولت هنا أن أكسر حدة هذه النظامية بالفوضى المتعمدة أحيانا، تجريب العبث والسيريالية. لو أني استمررت في العمارة لكنت أصمم مبانٍ غريبة الأشكال أو ذات حضور متوحش في المكان، سيشار لها بأنها منبتة عن الأصل، وهنا سوف تتحرر الشجرة عن الجغرافيا والتضاريس والأرض، أنا أحب الأشجار في تجذرها وأكره أنها لا تغامر بالسفر، كما البشر.

لماذا كل هذا الشغف اللامحدود بالرواية والأدب، ماذا نقول لمن يسأل: ما فائدة الأدب لأيّ أمّة ما؟

عماد البليك: هل هو شغف؟ لربما.. مرات أشعر بأنه نوع من الضجر الذي يجب عليّ احتماله شئت أم أبيت، بذاك المنطق الذي أشرت إليه من أن الإنسان أسير مجموعة من القيم والأطر التي تضعه داخلها بحيث يكون هو، هو. ليس بمقدوره أن يتحرر من ذلك السياق الثقافي والتاريخي، ممكن لحد ما، لكن ليس مطلقا. إنها سلطة الأب والتاريخ والتراث لاسيما في مجتمعاتنا ذات السياق النمطي في الوعي والإدراك. هنا سيكون الأدب قوة مضجرة لكنها ضرورية، علينا أن نتحملها من أجل المستقبل، الحضور في لحظة أكثر إشراقا نحلم بها، أي توقع جميل بحياة لها مقومات الإنسانية، لسنا إنسانيين إلى اليوم كما ينبغي، بل نكذب على أنفسنا كثيرا، نتجمل، نمارس القهر على الكل حتى ذواتنا نكرهها لا نحب إلا الضجيج الفارغ. وظيفة الأدب هنا هي التحرر من كل هذه الترهات، إنه في اللغة العربية يأخذ مضمونه من الكلمة نفسها، أدب، ذوق وتربية وأخلاق وقيم وإنسانيات، كما أيضا كلمة ثقافة، جذور الكلمات في اللغة سوف تعيدنا إلى المختزن واللامرئي في تلافيف اللاوعي المجتمعي، وهو يؤسس للغة. يخال لي أن الذين صنعوا اللغة ولا أعرف من هم، كانوا إنسانيين جدا وهم يضعون التصورات المستقبلية بإنجاز ما في المفردة المعينة، فكلمة أدب لا تحيل إلى المتحقق، إنما التطلع الذي يجب أن يحدث ذات يوم، ومن هنا تظل الكلمة متغيرة الدلالة في صيرورتها التاريخية، ليس تغير المعنى بل الحضور في فاعلية روح الكلمة، بأن يكون ثمة أدب بحق، ثقافة، إنه السعي الدؤوب لابتكار الجمال والنظام وصناعة الإنسان المتآلف مع وجوده، العارف بالأسماء، وتلك مسألة أخرى كبيرة.

هل من أسباب ودوافع بيّنة أثرت وأثّرت مسيرة حياتكم وتكوينكم الإنساني لا سيما في بناء شخصية البليك الراوية أو الروائية؟

 عماد البليك: قلت إني لا أفهم كثيرا في كيمياء الدوافع، كما يمكن الزعم بأن الكتابة نفسها هي نوع من محاولة الوعي والفهم بالتجرية الذاتية للكاتب، أوالمفكر إلخ.. فالبحث عن الأسباب والدوافع هو ما يحركنا لكي نغامر مع اللغة التي أشرت إليها في السؤال السابق، وأنها لا تحكي عن الموجود والقائم فعليا إنما عن المتصورات لما سيكون، اللغة دائما هي فضاء مستقبلي، لكننا نقتلها بوعينا القاصر، ونحن نظن أننا أنقى منها وأكثر وعيا، وهي أيضا لا تتطور إلا من داخل تسامحنا الحقيقي معها بأن نفهمها بمحبة ونعيشها لا أن نتمسك بها كصور شكلية وقشور أو نخافها من جهة ثانية، فالتفكير داخل اللغة إن جاء مرعوبا، لن يكون لك أن تفهم أي شيء، ستغلق ذاتك في إطار الخوف وستفشل في الوصول لأي محصلة جمالية أو إنسانية، لن تفهم الدافع ولن تدرك خرائط الطريق، لهذا فإن اللغات لها علاقة كبيرة بالتطور والحضارة. أما عن بناء شخصيتي الروائية، فيمكن أن أجيب بما يشبه التفكير المتشظي، بأن الرواية عندي هي مُساءلة للحياة وأنساق الوجود والوعي واللاوعي، هي فلسفة جمالية تصوغها اللغة لكي نقترب من اللامحسوس من خلال مرئيات وتجارب وذاكرة وحكايات ومعايشات وغيرها، في النهاية لن نصل لشيء سوى أننا سوف نعقد السؤال، وهذا هو المشروع الجمالي والإنساني الذي تقول به الحياة، أن تظل الإشارات مفتوحة دائما، أما في اللحظة التي يغلق فيها كائن ما تلك الإشارات فسوف يعطب ويفلس عن المعرفة ويصبح متحجرا، غير قادر على رؤية العالم. لهذا فإن التجربة الروائية كما أفهمها وأمارسها هي رؤية لهذا العالم الذي يصعب إحكامه أو السيطرة عليه بأي شكل كان، والمفكر أو الروائي أو الفنان العارف، لنقل الذي يصل طور العرفان، يكون قد فهم ذلك جيدا، وأصبح لا يُساءل الحضور بل الغياب، ويدرك أن لاهوته الشخصي قد يكون فيه صورة مصغرة للاهوت العالم الكبير، وارجع لكبار المتصوفة ستجد هذا المعنى، وستفهم أن علاقتهم مع العالم ومع اللغة تأخذ بؤرتها أو مركزها من هذا الباب المفتوح لمن أراد.

ما دور طفولتكم في شمال السودان أو بالأحرى بمدينة بربر على أعتاب الوحي الصوفي بكدباس ومن ثمّة داخل فضاء الراوي عماد البليك؟

 عماد البليك: أنت تتكلم عن كدباس تلك المنطقة ذات البعد الصوفي والروحاني، ولي أن أشير إلى الإمام الثائر محمد أحمد المهدي الذي تشكل وعيه الجمالي والروحي وتجربته العميقة في هذا الموقع عندما ذهب تلميذا عند شيخه محمد الخير، في بربر الغبش، وتعلم أن مفردة الغبش نفسها فيها ما فيها من الموحيات الكبيرة، في هذا الفضاء الذي يقع بين النهر والعتامير الصحراوية، حيث يبدأ المكان منفتحا على العالم من خلال سيرورة البر والنهر، أي الحضور والغياب، إذ يمكن لك أن تقيم وتزرع بجوار النهر أو أن تسافر في دروب العتامير التي كتبت عنها في أول رواية لي “الأنهار العكرة” ولا أزال أعتقد بأني لم أوفها حقها، هذه العوالم بالنسبة لي تشبه الغيب كأن حضورها يتأكد عندي من خلال عالم الأحلام لا اليقظة، لأن طفولتي وصباي هناك برغم ما فيه من التجارب الرائعة والاجتهادات والشغف، إلا أنه بالنسبة لي مرت سريعا، لست متأكدا أن كان كل ما جرى قد كان بالفعل، أم أنها سيرة لكائن آخر في عالم موازٍ، ليست هذه هرطقات بل لأن حقيقة العالم جد معقدة، ومن يتأمل في تجربة الوحي والأديان والحكمة الوجودية الكبيرة سوف يصل إلى أن العقل هو المكان، هو اليقظة والحلم والغياب، ومن خلال تحديد وجودنا داخله نفهم أين نحن بالضبط، إن استطعنا لذلك سبيلا.

أنت قارئ شغوف ومخيف في نفس الوقت … ما أين لك بكل هذه الطاقات وكل هذا الحيز الأفقي في الزمان والمكان؟

 عماد البليك: لا أعرف هل هذه الصفة صحيحة أم لا، في الواقع أنا متأمل، بالنسبة لي يمكن أن أنظر إلى فكرة معينة بأكثر من وجه وأقلبها لكي أفهمها بحقائق متضادة، نعم حقائق. لا حقيقة مُثلى، ولا واحدة. الغباء الذي يحكمنا وطرق وأنماط التربية والعلم تحاول أن تجعلنا نرى الأمور دائما بوجهة أحادية ومطلقة. هذا مشكل القراءة في الأساس. في التراث النبوي والقرآني كانت دعوة “القراءة” هي مفتتح الانطلاق لدعوة النبي، لكن ليس القراءة هنا بمعنى الكتاب المسطور فحسب، إنها تجليات النفس والكون في صلتهما بمطلق التجربة الإنسانية. مشكلتنا أو إن مشكلة مجتمعاتنا أنها تركن إلى خطاب أرثوذكسي ودوغمائي يعمل على إغلاق الخطاب، بسدّ مسارات التفكير والقراءة بمعنى أوعى. تحريرنا لن يبدأ إلا من حيث نقرأ، بل أن نتعلم كيف نقرأ. سؤالك يثيرني جدا لكي أقول، إن هذا السؤال من الممكن أن يكون مشروع كتاب “تعلموا كيف تقرأون” – مثلا – على شاكلة “رسالة الصلاة” أو “تعلموا كيف تصلون” للأستاذ محمود محمد طه، هنا يكون السؤال لما كان الأمر الأول بالقراءة وليس بالصلاة، هذا يعني أن القراءة مفهومها أوسع، وأن الصلاة – من صلة واتصال – في حد ذاتها تنطوي في جزء من القراءة الذاتية التي تحاول أن تحرر النفس وتصلها بمطلق الوجود، بأن تغسل درنها المادي واللامادي، بأن تجعل الروح شفافة وقادرة على الإبانة والغوص في طبقات العالم السمحة التي من أجلها كان وجود الإنسان في الأزل. لهذا فإن الإجابة عندي حول طاقة القراءة، مرتبطة بتحرير مفهوم القراءة في حد ذاته، الإشكال هو أن كثيرين يقرأون، لكن لا يقرأون. كما أن الكثير يصلي ولا يصلي، وهكذا هي الصورة. يمكن القول بأن هذا التحرير الذي تصنعه القراءة بفكرتها الكبيرة هو الذي سيكون قادرا على تجسير الأزمنة والأمكنة والقفز، لتعيش في كل مكان وزمان، وتتجاوز العبور اللحظي. وهنا سوف أشير لفكرة ضرورية، علينا أن نتأملها وهي أن القراءة والكتابة، كلمتان بارعتان في الوصف لمضامين لم تكتشف بعد، ما الذي يعني أن أقرأ، وما الذي يعني أن أكتب؟ ومتى يبدأ شرط القراءة أو الكتابة؟ لنقل باختصار أن الكتابة هي منطوية داخل القراءة بظني وليست خارجها، ليست الكتابة إلا البذور التي تجدها داخل الثمرة، إذا ما تم تشبيه القراءة بالثمرة، تلك البذور التي إذا وجدت العقل الحي صنعت منه تربة خصبة وخرجت بأفكار جديدة للعالم، وهنا سيكون دور التأويل والمعرفة المتجددة عبر إعادة تشكيل الرؤى والأفكار.

كيف تقرأ إن بدأنا نسأل عما إذا كانت لك خطة في انتقاء المادة الأدبية؟

عماد البليك: أنا أقرأ بعشوائية كما يبدو الأمر في شكله الخارجي، أو كما يبدو لي شخصيا غير مفهوم، لكن هناك حالة من النظام غير المرئي وغير المكتشف، وقد أشرت لمضمون هذه الفكرة في الأسئلة الأولى، أن حقيقة أو فلسفة النظام والعشوائية والقدر ووو … كلها أمور متداخلة وعصية، تتطلب ذهنا صافيا لكي يدركها، كما أن الإدراك نفسه مرتبط بظروف السياق المعين، كما يحدث في التجارب العلمية التي تخضع لشروط ليكون لها النجاح أو الفشل. إذن فالانتقاء قائم وفق توليفة غير مكتشفة، أنا نفسي لا أعرفها، طابعها أو تجليها يكون في الشغف بسؤال المعرفة والبحث عن الجديد، تكسير الفوضى بحثا عن النظام، والعكس صحيح. بأن نفكك النظام لكي نخلق مزيدا من الفوضى، هذه السُنة التي نجدها في صلب التفسير اللاهوتي للكون وحركة العالم من أزله إلى قيامته المستقبلية.

صورة رمزية - شخص يتصفح معلومات الإنترنت في هاتفه الذكي. symbolfoto_daten_infos_auf_dem_smartphone_foto_imago
“نظرية المعرفة المتشظية”: يقول الروائي السوداني عماد البليك: “ما يعرف عندي بنظرية المعرفة المتشظية، أن التلقي لا يكون إلا مقصودا في حال كان عندك هدف أو مشروع أو رغبة معرفية في التعلم والانتباه، سوى ذلك سوف تجد أنك متجه نحو ما تعتقد أنه النظام. القراءة المصدرية ذات المنحى أو الاتجاه الخطي. وهذه قد تخدم في علوم معينة، غير أنها لا تجدي مع الفلسفة والأدب والفنون والرواية، التي هي عوالم في أساسها قائمة على الانفتاح الكلي واللاحدودية بين الأشياء. الإنترنت وفّر بشكل مباشر هذه الطريقة في التلقي، بحيث أعاد بالفعل تشكيل صور القراءة وأشكال المعرفة التقليدية، وعزز فكرة التشظي التي أتكلم عنها، ففي الطريقة التي يتيحها الإنترنت من التنقل والقفز وسرعة الوصول إلى الأفكار ما يمثل انقلابا على شكل العالم القديم في المعرفة وطريقتها واشتغالها، هذا بحد ذاته يتطلب منا أن نعيه وندرسه بشكل حثيث لكي نأخذ منه الاستلهام لبناء عوالم معرفية جديدة أكثر اقترابا من ذواتنا، لأن نتائج هذه الثورة لم تتلخص إلى الآن أو تصل إلى خلاصاتها، أعني الثورة الرقمية والمعلوماتية الهائلة التي تكاد تشبه انفجار الأساطير في التاريخ القدي

تدخل إلى المكتبات وتترك الصدفة تلعب دورها؟ أم تخترق دهاليز الشبكة العنكبوتية لتتجاوز حدود المعرفة؟

عماد البليك: بالرجوع إلى الإجابة السابقة، ربما هي الصدفة. لكن قلت لك إنها نظام نجهل الكيفية التي يعمل بها، هذا هو القانون الغائب أو الأزلي. الكون لا يزال غامضا بالنسبة لنا نحن البشر. ماذا نفهم أو نعرف عنه؟! مجرد كائنات تعيش في حافة مجرة في كوكب صغير. المهم أن ثمة ما يعرف عندي بنظرية المعرفة المتشظية، أن التلقي لا يكون إلا مقصودا في حال كان عندك هدف أو مشروع أو رغبة معرفية في التعلم والانتباه، سوى ذلك سوف تجد أنك متجه نحو ما تعتقد أنه النظام. القراءة المصدرية ذات المنحى أو الاتجاه الخطي. وهذه قد تخدم في علوم معينة، غير أنها لا تجدي مع الفلسفة والأدب والفنون والرواية، التي هي عوالم في أساسها قائمة على الانفتاح الكلي واللاحدودية بين الأشياء. وبالإشارة إلى الإنترنت فقد وفّر بشكل مباشر هذه الطريقة في التلقي، بحيث أعاد بالفعل تشكيل صور القراءة وأشكال المعرفة التقليدية، وعزز فكرة التشظي التي أتكلم عنها، ففي الطريقة التي يتيحها الإنترنت من التنقل والقفز وسرعة الوصول إلى الأفكار ما يمثل انقلابا على شكل العالم القديم في المعرفة وطريقتها واشتغالها، هذا بحد ذاته يتطلب منا أن نعيه وندرسه بشكل حثيث لكي نأخذ منه الاستلهام لبناء عوالم معرفية جديدة أكثر اقترابا من ذواتنا، لأن نتائج هذه الثورة لم تتلخص إلى الآن أو تصل إلى خلاصاتها، أعني الثورة الرقمية والمعلوماتية الهائلة التي تكاد تشبه انفجار الأساطير في التاريخ القديم في مجتمعات الشرق، حيث كان قد بدا مقول هائل وعظيم حول الإله والخلق والطوفان وغيرها من السرديات، نحن الآن أمام سردية تعيد بناء العالم، سيكون أثرها كبيرا في مقبل السنين وقد بدأ فعليا.

نصائح ختامية لمن يريد أن يبدأ الخوض في كتابة الأدب … ماذا تنصحه؟

عماد البليك: الأدب بشكل عام يبدأ من وله وشغف شخصي، إذا لم يتوفر لا يمكن لك أن تتقدم خطوة للأمام، بمعنى أنه ليس كبعض العلوم المهنية البحتة، التي تتطلب التدرب على مهارات معينة لتكون بارعا. في الكتابة يمكن لي أن أقول لك أن ثمة حقائق معينة عن طرق التجويد، أو أشرح لك كيف تكتب رواية، لكن كل ذلك يشبه أن أقول لك أنك يمكن أن تخلق بشرا من خلال نحت أو تشكيل الطين، هذا ممكن سيكون أمامك كائن بارع الجمال، أما الروح التي تجعل هذا الكائن يتحرك ويقفز فهو إرادة الخلق أو النفخة التي ليس بإمكان أي إنسان آخر أن يمنحك إياها. لهذا فالإبداع “نفث من الرحمن مقتبس” كما قيل، و”الشاعر الفذ بين الناس رحمن”، كما قال العقاد. هذا الارتباط بين فعل الخلق والإبداع ضروري لفهم أن الأدب ليس هينا إلا بهذا الاستعداد الكبير والقدرة على التحرك السريع في العمل والاكتشاف والصبر والحضور في طبقات العالم اللامرئية، بتحرير الوعي، وأن ترفع عن صدرك الثقل، ولن يكون ذلك إلا بمحبة فائقة، تعرفها أنت لا أحد سواك، “لا نريد منكم جزءا ولا شكورا”  (الإنسان -9)، فالذي يغوض غمار هذه المعركة الصعبة يجب أن يعرف أن الجزاء ليس آنيا، وأن الهدف يبدأ من تهذيب الذات نفسها قبل الرغبة في تغيير العالم أو اعترافه بك.

هل من إعلان عن الجزء الثاني والثالث للحوار … كيف ترشد القارئ والمهتم لأمور الأدب في كيفية بناء رواية أو معمار القص والحكي أو السرد؟

 عماد البليك: قلت إن هناك قوانين ونظم لكل شيء، إلا أن يثبت العكس. أو تتحقق الخيانة كما أقول دائما على شاكلة ما ذهب ميلان كونديرا في كتابه “خيانة الوصايا”، لا تخن وإلا أنت عارف. المعرفة الجديدة والتشكيل لا يقوم إلا على الوعي المدرك والعارف، الذي يصل كما قلت سابقا إلى العرفان، هي رحلة شاقة لكن ممكنة، والمحك الأساسي هو الصدق مع الذات، الإدراك بأن الحياة هي مسار قد لا نفهم تشعباته لكن علينا أن نسيره. سوف نتكلم بإذن الله عن كل ذلك، وعن صور وأشكال البناء في السرد والقصّ. شكرا دكتور.

حاوره: محمد بدوي مصطفى

حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى 2021

108674-deutschland_islamkolleg_koran_symbolbild_foto_epd.jpg

هل في القرآن كلمات عبرية وآرامية ولاتينية

هل نجد في القرآن لواحق عبرية وآرامية وكلمات لاتينية غير تلك الفارسية المعروفة؟ ومن أين جاءت اللاحقة “ـوت” في “ملكوت”؟ وهل أصل “صراط” لاتيني أوروبي؟ رسالة الكاتب محمد بدوي مصطفى إلى صحفي.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

بحكم إقامتي في خارج السودان فمن الصعب أن أتابع الصحف اليومية بالتمام والكمال. وسلوتي الوحيدة أن الأخوة ينشرون مقالاتهم في الصحف الإلكترونية بالنت. بالصدفة وأنا أتصفح المقالات التي كان معظمها 95% في السياسة وقع بين عيني مقال الأخ الفاضل الفاتح السيد، الصحفي بجريدة الانتباهة، الذي يرد فيه على مقالي عن سلسلة مقالاته المعروفة (اللغة العربية أسرار وحكايات). وجدت طي هذا المقال دعوة أخرى لأن أعيد النظر في المقالات بعد أن دعم مقاله الأخير بمرافعة جديرة ناهيك عن دعوته لي بأن أرجع البصر كرتين وأنا واثق يا صديقي أن بصري سوف لا يرجع إليّ خاسئا وهو حسير. لماذا؟ وهذا لب الموضوع لكن دعونا نقرأ ما كتبه إليّ لتبرير مادة المقالات: يقول الزميل العزيز الفاتح السيد الآتي:

“… كما أردت من هذه المقالات تحبيب اللغة للناشئة ولغيرهم وجعلها لغة للتواصل والاتصال والونسة.. في ظل خطورة الونسة في عالم الفيسبوك والواتساب والفايبر وغيرها.. لكن هذا الكلام أظنه لم يعجب أستاذنا الدكتور محمد بدوي مصطفى فكتب مقالاً بصحيفة «الخرطوم» استغرب فيه من تناولي لهذا الموضوع دون اتخاذ خطوات البحث العلمي المعروفة وأدخلني في متاهات جماعة الكوفة والبصرة والخلافات الطويلة والعميقة بينهما واللسان اليمني والمغربي والشامي والقلقلة وكسر همزة إن والخلافات بين النحويين والتي لم ولن تنتهي وما أردت ذلك ولا طاقة لي في ذلك. الأخ الدكتورأنتم الأحق بالحرص على البحث العلمي الدقيق في مجال اللغة العربية وأسرارها والكرة في ملعبكم لا في ملعبنا نحن الصحافيين الذين نتناول الأشياء على عجل ونبحث عن الطرافة واللطافة والمفارقات والأسرار والحكايات.” نهاية الاقتباس

أود هنا أن أقف على سلسلة تلك المقالات كأخ وصديق فبالله عليك ضع هذا في الحسبان. أحمد لك حبك للغة العربية وكلنا نعشقها ولو لا ذلك لما همني الأمر. لمست في طيات سلسلتكم أخي الفاتح بصيص من النور وتعلقكم بلغة الوحي فعزمت أن أدعوكم لتصحيح المسار كصديق كما ذكرت. فالتصدي لأمور العلم حتى في المقالات الصحفية ينبغي أن يكون موطدا بأرضية متماسكة تجعل البناء فيها يستقيم. فما من الانطباعات العامة يمكنكم أن تشدوا القراء من الشباب إليها ناهيك عن خطورة الترويج عموما في خضم صفحات التواصل الاجتماعي.

تبشير بقدوم النبي إسحق “إسحك” Izhak، وهو فعل أمر بالعبرية يقابله في العربية “اِضحك”!

سردت أنك تطرقت لبعض المفارقات واللطائف والمقاربات في اللغة العربية. وتناولت –على سبيل المثال لا الحصر- مقاربات ومشابهات تتعلق بحروف النون والراء والدال والجيم وعرجت إلى تشبيه العربية في الكوشية والصلة بينهما التي تدعي –بدون مبرر– بأنها تماثل الصلة بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهنا عليّ أن أطرح لك السؤال الآتي: ما هي لغة سيدنا ابراهيم وما لغة سيدنا إسماعيل؟ هل كانت العبرية القديمة – أقصد عبرية التوراة؟ أم العربية؟ أم القبطية القديمة؟ تزوج سيدنا ابراهيم –بحسب الروايات– بالسيدة هاجر والسيدة سارة؟

خاطب الوحي سارة بأي لغة … بالعربية أم العبرية؟ عندما أتاها الوحي وبشرها بقدوم إسحق: ضحكت. فقال لها لأنك ضحكت سوف نطلق عليه اسم “إسحك” Izhak، وهو فعل أمر بالعبرية يقابله في العربية “اضحك”! عليه فقد رمت سلسلة مقالاتك عدة أسئلة وهذا جميل، يمكن التصدي لها في مقالات صحفية دسمة.

مصحف - القرآن الكريم. Koran Quran Foto Picture Alliance
“جبروت وملكوت وولدان وغلمان”: الجدير بالذكر أنك تجد بعض اللواحق العبرية في القرآن ووظيفتها ها هنا بناء الأسماء: مثال “ـــوت” في جبروت وملكوت. كما وتجد كلمات فارسية أو قل هندوأروبية ككلمة (فردوس) “بردايس”، وتجد هناك اللاتينية ككلمة سراط (strata). وكلمة قرآن نفسها سامية الأصل نجدها في الآرامية –لغة السيد المسيح– في كلمة قريانا. واللاحقة “آن” تبني الأسماء في الآرامية بصورة مولدة وفي العربية المثنى (في ولدان بنتان) قليل في الجمع (في غلمان وكيزان). والقرآن يعني القراءة.

ذكرت أخي الكريم أنك لم تجد حرف الجيم في العديد من الصور ولو لمحت ما فوق بعض الأحرف والكلمات لوجدته وهو هنا يعني: جواز الوقف في التجويد. وفي البقرة تجد حرف الجيم في عدة مواقع: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال و الأنفس والثمرات وبشر الصابرين) ( سورة البقرة: 155)

ليس الأمر كما ذكرت بأن الأمر لم يعجبني ولكني كما قلت لك في بداية المقال إنني اهتممت للسلسلة ووجدت أنكم يمكنكم أن تخرجوا منها بنصيب وافر من المادة الجيدة إن رجعتم لأمهات الكتب وعكستم بصيص منها للناشئة لتفيد منه. وجل من لا يخطئ وجل من لا يسهو وكلنا في الهواء سواء.

لكنني تعلمت في سياق عملي الآتي: “ما تسمع كلام البضحكك واسمع كلام الببكيك” ووجدت أن ثمار النقد البناء تعينني في تطوير العمل والاجتهاد سيما وأن الناقد اهتم بها وتصدى له بكل موضوعية.

شين في العبرية تقابلها السين العربية كما في كلمة شلوم وسلام

أعجبني أخي الفاتح تطرقكم لقضية الاقتراض المعجمي في القرآن عندما أعطيتم أمثلة في كلمات رب، روح، إلخ متسائلين هل هي كوشية أم عربية؟ وأنا أقول لك أولا: الأم التي تحوي هذه الكلمات هي السامية! إن وجدت لغة سامية موحدة والعلماء لم يتفقوا على هذا الأمر. لكن الكلمات موجودة في عربية العهد القديم في التوراة وفي سفر التكوين تجد أول آية بالعبرية تقول: (بريشيت برى إلوهيم ها أرض وشميم) – وهنا تجد التشابه الكبير بين العبرية والعربية. ترجمة الآية: في البدء خلق الله الأرض والسماوات. التشابه في الفعل برى (بري وخلق في العربية)؛ إلوهيم (الله وفي نهايتها اللاحقة يم)، ها (أداة التعريف كما هي الحال في اللهجة السورية عندما يقولون “ها الولد”)، وشميم في صيغة الجمع هي السماوات والشين في العبرية تقابلها السين في العربية كما في كلمة شلوم وسلام.

الصلة بالهندية وطيدة فكتاب كليلة ودمنة ترجم من الأصل الهندي إلى الفارسية ثم العربية

وكما تعلم أن حروف العلة تتغير خصوصا عندما تحل في وحدات معجمية بها مد. تمعن يا صديقي العزيز سورة الطارق مثلا التي يطرح الله فيها السؤال اللغوي والبلاغي السهل الممتنع: السماء والطارق … وما أدراك ما الطارق؟ ويجيب عليه سبحانه وتعالى: النجم الثاقب. يعني “طارق” التي أتت بعد كلمة السماء – وهذه بلاغة القرآن في تحديد السياق في علم المعاني- ليس لها بالفعل “طرق” (في طرق الباب مثلا) صلة بل “بالنجم الوضاح” نجم الصباح المنير في قبة السماء. والأصل موجود في اللغة الهندية وله مؤنث تارا، وهل من مدكر؟ والصلة بالهندية كانت وطيدة فكتاب كليلة ودمنة ترجم من الأصل الهندي (بنشاتانترا) إلى الفارسية إلى العربية، وحتى بعدها استوحى منها الكاتب الفرنسي أوسكار لا فونتين الفرنسي أساطيره وحكاياته التي سماها بالفرنسية (ل فابل دو لا فونتين).

كلمة “فردوس” الفارسية وكلمة “الصراط” اللاتينية

ثانيا: الجدير بالذكر يا أخي الفاتح أنك تجد بعض اللواحق العبرية في القرآن ووظيفتها ها هنا بناء الأسماء: مثال “أوت” في جبروت وملكوت. كما وتجد كلمات فارسية أو قل هندوأروبية ككلمة (فردوس) “بردايس”، وتجد هناك اللاتينية ككلمة صراط (strata). وكلمة قرآن نفسها سامية الأصل نجدها في الآرامية –لغة السيد المسيح– في كلمة قريانا. واللاحقة “آن” تبني الأسماء في الآرامية بصورة مولدة وفي العربية المثنى (في ولدان بنتان) قليل في الجمع (في غلمان وكيزان). والقرآن يعني القراءة.

ونحن نعلم أن العرب وحتى نحن في السودان على اتصال بالرومان، فالمدرجات الرومانية في شمال السودان وفي مصر وسوريا وليبيا توثق لهذا التاريخ المديد. وحتى علماء العرب كان لهم أعظم الفضل في حفظ المدونات الفلسفية التي كتبها الإغريق التي اندثرت عبر القرون وتم إعادة صياغتها من الأصل العربي المترجم.

تدمر مدينة أثرية ذات أهمية تاريخيةفي محافظة حمص بالجزء الأوسط من  سوريا - من العصر الحجري الحديث إلى الإمبراطورية الرومانية. Theater Palmyra in Syria Syrien Foto Picture Alliance
على اتصال بالآخر: نحن نعلم أن العرب وحتى نحن في السودان على اتصال بالرومان، فالمدرجات الرومانية في شمال السودان وفي مصر وسوريا وليبيا توثق لهذا التاريخ المديد. وحتى علماء العرب كان لهم أعظم الفضل في حفظ المدونات الفلسفية التي كتبها الإغريق التي اندثرت عبر القرون وتم إعادة صياغتها من الأصل العربي المترجم.

وعلماء المنطق العرب في العصور الوسطى تأثروا بشدة بهذه النظريات وأدخلوها في علم الكلام ونظرية العامل والإعمال في النحو. من جهة أخرى نعلم أن اللغة کائن حي ففي لهجتنا السودانية نجد كلمات من لهجات عربية أخرى، فارسية، تركية: أدبخانة، أجزخانة، داندرما، كلتش، جربوكس، فرملة، قراش، كشك، ورشة، دبرسة، إلخ. والحديث عن هذه الأمور شيق، بديع ومفيد. حتما سنرجع إليه ثانيا في سياق سلسلة، فلتكن الانطلاقة منكم أخي الفاتح.

في آخر المقال أتمنى لكم أخي كل النجاح فيما تصبون إليه … وأكون سعيدا وأيما سعادة بالتواصل العلمي والصحفي معكم. لكم مني كل الود والتمنيات الصادقة.

محمد بدوي مصطفى

حقوق  النشر: محمد بدوي مصطفى

109567-arabic_cover_jidariyyat_al-aaj_novel_of_sudanese_female_author_fadwa_saad.jpg

رواية “جدارية العاج” للكاتبة فدوى سعد: لوحة تشكيلية مُؤَنْسَنَة

تقول الكاتبة إن الكتب زائر غامض بغلاف جاذب ومحتوى مجهول وإن عليها إيجاد فائدة معرفية أو لفت انتباه لمشكلة مجتمعية ليجد القارئ ما يفيده نفسيا أو سلوكيا أو مجتمعيا. محمد بدوي مصطفى يعرفنا بها وبروايتها.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

مقتطف من الجدارية

بما أنَّهُ قد تَمَّ عناقي ملايين المرات أصبحَتُ مُلِّمًا بِكُلِّ أنواع العناق القاهرة في دنيا اليتم؛ عناق عمَّتي منى يصحبُه بكاء بصوتٍ عالٍ، تضغط بقوة بيديها على ظهري، ذقنها يغوصُ في كتفي؛ هذا عناق أنا لا شأن لي بهِ، هي تشتاقُ لأخيها تفتقدهُ؛ تراني هو أحسُّ بذلك في دموعها، رائحةُ بكاءها.. هل يعلمون أنَّ للبكاء رائحةً تقهر؟ خليط رائحةُ البصاقِ، المخاط، وأنفاسِ البطنِ الخاوية كانتْ تقهَرُ دواخلي، أَلَمْ يخبرهم الربُّ أَلَّا أُقْهَر؟! ثُمَّ عناق آخر تتحَرَّكُ فيه الأيدي على ظهري في نفسِ موضعها مِن أعلى إلى أسفل تخبرُني أنهُ حَزِنَ عليَّ، وتحسَّرَ على النعيم الذي لم يرَ ابنهُ.

عناق مربك آخر يدٌ تربتُ بخفةٍ لا أحسُّ بها على ظهري، هذا عناقُ منافقٌ لا يهمّهُ أمري فقط يريدُ أجرَ ربي. بهجتي عناق أبي الشفيع، لم يكنْ يومًا عناقًا في الأرضِ يحلِّقُ بي دوما في الفضاءِ مبتهجًا، نظرة تقهرُ لم أرها في عينيهِ بتاتًا، يدغدغني داخلَ قلبي ينسيني جميعَ النظرات التي تقهرُنِي. أبي الشفيع هو أبي، وإِنْ قالتْ الأوراقُ الثبوتِيَّة غير ذلك. نظرته الضاحكة جعلتها لجميع الأطفال الأيتام ليحيوا أطفال طبيعيين غير مقهورين كما أمر الإله.

جدارية العاج – لوحة تشكيلية مؤَنْسَنَة

صدرت للروائية السودانية فدوى سعد رواية جدارية العاج عن دار المصورات السودانية.  تعد الكاتبة فدوى من المبدعات المتميزات في حقل السرد والقوافي، ذلك على حد سواء فضلًا عن اهتمامها بالفنون التشكيلية والفن بشكله الواسع. فهي تصمم أغلفة الكتب وترسم وتبدع في عدّة مجالات والأدب والفن هما في شخصيتها دون أدنى شك وجهتان لعملة واحدة، كل واحد منهما يكمّل الآخر، يغذي النفس ويفتح الأعين والروح لآفاق بعيدة قلّ أن توجد في آحادييّ الفن.

أما فيما يتعلق بالشعر فقد كتبت الأديبة فدوى سعد القصيدة الحداثية ثم انطلقت بعد ذلك إلى حقل الرواية والحكايات، وكان أول عمل روائي لها هذه الجدارية، وقد حققت فدوى بهذه الرواية أصداء عميقة بين القراء والنقاد، لا سيما في الوسط الثقافي بالسودان. لقد تمكنت الكاتبة من تطويع أدوات اللغة والتحكم بأرسنها، رغم الهفوات المتناثرة هنا وهناك الذي ينبغي عليها أن تتفاداها في الأعمال القادمة، ونحن كلنا شوق وثقة. على العموم خرجت الأديبة بمخطوطة في ثوب كلميّ تشكيليّ مزركش منمق، رصين الكلم، جميل اللحن، شائق المضمون، عذب الموسيقى، متناغمة وحداته الواحدة تلو الأخرى، نجد فيه عبق السودان وعطر نسائم أفريقيا التي تنساب على أعطاف الجمل السرديّة من كل صوب وحدب. أعطت فدوى في هذا العمل الشباب صوتًا جهورًا على ترهات هذه الجدارية، رسم هؤلاء وأولئك فيها، كما فعلوا في غضون ثورة أكتوبر المجيدة، آمالهم، طموحاتهم ومخاوفهم من المستقبل المجهول، ببقعة سالت فيها دماؤهم بحرًا زاخرًا، ورغم كل تلك العثرات وتلك العبرات أعطتهم فدوى أملًا ألا يقنطوا من رحمة السماء ومن مستقبل باهر ينتظر كل فرد من بيهم، صبيان وصبايا.

جدارية العاج – إحساس دافق في السرد

جاءت الرواية في واحد وعشرين جزء، يتناوبان فيها الأصل والفرع والعكس دون انتظام، ويتناوب على أزقتها أبطال الرواية، كتلة الحدث والسرد والحركة. لقد ذكرت الكاتبة فدوى في غير مقام، أن الرواية كانت بالأصل قصصا مختلفة، متباعدة، عقدت وقتئذ العزم أن تنشرها كقصص قصيرة أو مجموعة قصصية، بيد أنها عدّلت عن هذا الرأي وانبرت لا تلوى على شيء إلا وتصب كل هذه القصص في إناء واحد.

أجدها قد برعت في ربط خيوط القصص والشخصيات فيها بعضها مع بعض، رغم تباعد الأزمنة والأمكنة القائمة بينها. لقد استطاعت بجدارة أن تقتفي أثر شخصياتها من سن الطفولة المبكرة وترحل بها رويدًا رويدًا إلى مرحلة الكبر والنضوج العمريّ.

تدور أحداث هذه الرواية عن العلاقات الإنسانية، عمقها، جذورها فضلًا عن تشعباتها وتشابكاتها هنا وهناك. استطاعت فدوى ترسيخ أحداث الرواية كحقائق لا جدال فيها، وكأنه التاريخ تشرق شمسه علينا، هذا من ناحية كما تمكنت من توظيف الشخوص داخل سياق الخيط السردي بعمق كبير، يتدفق هذا الخيط بأحاسيس أسست لها بالتمعن، تنبع من الأعماق، منها التفاؤل أو القنوط، أو تلك الإيجابية رغم مدلهمات الحياة، فما أكثر العوارض التي تجابه الأبطال.

الكاتبة السودانية فدوى سعد مؤلفة رواية "جدارية العاج".  Sudanese female author Fadwa Saad author of the Novel Jidariyyat  Al-AAJ Foto Facebook
كاتبة شابة تطمح أن تُسمع كلماتها حتى من به صمم: ‎تقول الكاتبة السودانية فدوى سعد مؤلفة رواية “جدارية العاج” إنها في مسيرتها ودأبها ككاتبة شابة تطمح إلى أن تُسمع كلماتها حتى من به صمم وأن تصل إلى كل فرد في هذه الدنيا الواسعة … . وتضيف: “لقد نشأنا على كتابات روائية رابطة بين السودان والعالم العربي والأوروبي لدرجة يمكننا زيارة بعض الدول ونتخذ من الراوية مرشدا سياحيا وتاريخيا. … . الكتب هي الزائر الغامض: غلاف جاذب ومحتوى مجهول. من مسؤوليتي الكتابية التي أضعها على عاتقي مهما كان المحتوى: يجب أن تكون هناك فائدة معرفية ما، أو لفت انتباه لمشكلة مجتمعية بمعنى أشمل، وأن يجد القارئ شيئا ما يفيده نفسيا، سلوكيا أو مجتمعيا”.

فنجد أن رسم فدوى لشخصيات الرواية دقيق، بيّن، واضح، متأنٍّ إن صحّ التعبير، وكأنها تمسك في يدها ريشة لتجسد وترسم تلك الملامح  بتؤدة ورزانة، في خلوة وكأنها صوفية القلم، ومن ثمّ تفضح وتفصح عن دقة تحسد عليها، لتبرز كل شخصية على حدة، فتتدخل متفحصة في دواخلها (بطريقة الانتروسبكشن) لِتُري ما لا يُرى، لِتُظِهر ما لا يتجلى للقارئ من الوهلة الأولى، فقط استنتاجه، ذكاؤه وفطنته في التفاعل مع النص هي التي تقوده إلى طرق شتى لنهايات خلقها في خياله ومتاهات عدّة لا يجد مفرا للخروج من تشعباتها، تجعله بين هذا وذاك متقوقعا داخل النص، قائلًا هل من مزيد!

وإن كانت هناك بعض المشاهد القليلة التي أفاضت فيها وأكلمتها الكاتبة شرحًا دون أن تراعي أن القارئ فطن ويمكنه أن يقود خيوط السرد إلى مواقع أخرى … ربما لم تخطر لها ببال. ونجد في الرواية تعدد أصوات الرواة، أولئك الذين يسرحون في أرجاء المشاهد والأزمنة بحرية مطلقة، يعبرون عما يجوش بدواخلهم، متحدثين بصيغة المتكلم، أو …، يلجؤون إلى السرد الرسائليّ، أي عبر الرسائل، كتقنية سردية جديرة بالذكر هاهنا، ذلك باتزان، أو عندما يقتضي الحال، منفثين عن أنفسهم، بوّاحين بمآقيهم، آلامهم ومسراتهم كما هي الحال عند أخذ شخصية رضوان كمثال. ولقد ألقت الثورة بظلالها أو لنقل بنورها المتقد خلف الكواليس، وجاءت بشارة الختام تحمل في طياتها قيمًا سامية تستبشر بمستقبل واعد، مبشرة لا منذرة، محفزة لا محبطة، مستقلة لا مستغلة، ذلك رغم سحائب المنية وأحزان فتيّة طافت كغربان ابنيّ آدم، حول سموات الرواية، تطوف عليها من علٍ وهل تحمل في جعبتها رسائل إلينا …؟!

ملحوظة – الهدف من هذا المقال

إن الهدف من هذا المقال هو التعريف بالكاتبة وبروايتها الجديدة ولمن أراد أن يغوص في أحداثها فعليه بالبحث عنها فهي متوفرة في صيغة بي دي إف – أو كنسخة ورقية لدى دار المصورات بالخرطوم.

حوار مع فدوى سعد

 

من هي فدوى سعد … عرفينا عن نفسك؟

فدوى سعد: اسمي فدوى سعد أحمد يوسف، أنا من مواطنيّ مدينة كسلا شرق السودان. درست الأدب واللغة الإنكليزية بجامعة أمدرمان الإسلامية وحصلت على درجة البكالوريوس فيها.

البدايات والانطلاقة الأولى في عالم الكلمة المحكية؟

فدوى سعد: جاءت بداياتي ككل الطلاب والطالبات في المرحلة المدرسية، وأذكر أن انطلاقتي الأولى كمبتدئة كانت بالمرحلة المتوسطة، ذلك في حصة مادة اللغة العربية وبدفتر الإنشاء على وجه الخصوص. ولن أنسى تحفيز أستاذتي الفاضلة سمية الهادي، التي أتمناها أن تكون بخير وأرسل لها من هذا المنبر خالص التحايا وجليل المودة، فأنا ممتنّة لها.

بدأت رحلتي الحقيقية بعد المرحلة الجامعية وبدأت أكتب المشاهد القصصية والشعرية القصيرة ومن ثمّة الأبيات الشعريّة بالمجموعات الافتراضية وعلى أعتاب صفحتي على فيسبوك.  وللأمانة وحق عليّ أن أذكر مجموعة رحيق القصص والنصوص التي ثبتت قلمي بين كتابها، وكان أفرادها نعم الدعم والسند في توجيهي وإشارتي للأفضل. وأخص بالذكر صاحبة القلم المهذب الأستاذة سناء توفيق فريجون، والقلم الوقور د. سمية قطب والأستاذ سر الختم أبو السرور وقائد الركب الأستاذ الجليل إبراهيم أبو منذر وكل أسرة الرحيق، فلهم مني عاطر الشكر ووافر الحب. والنقد البناء يقود الكاتب الواعد إلى الأفضل ووجدت ذلك دون أدنى شك بينهم.

هل نقول فدوى الراوئية أم نقول القاصّة … ولماذا؟

فدوى سعد: فدوى تكتب ما تفرضه عليها الحالة الكتابية والنفسية فقد يندرج ذلك تحت نمط أدبي ما، ليس بإمكاني أن أصفه أو أنعته بمسمى ما، بيد أنني أعتقد وبكل تواضع أنني أجيد السرد والحكي.  

ما هي القراءات التي دعمت يراعك وإبداعه في مسيرة سردية، روائية قاصّة لا تقل عن عشر سنوات؟

إن التغذية المعرفية والبيئية من الصغر هي بمثابة مكتبة، فكانت مكتبة والدي الفكرية والشعرية ومكتبة الوالدة الروائية هما الأرضية التي وطأت قدماي عليهما وأذكر أن تنقلي بين المكتبتين بداخل المنزل نمّى فيّ تلك المهارات ودعم مقدرتي في التنوع الكتابي، وفي مسيرتي ودأبي ككاتبة شابة تطمح أن تُسمع كلماتها من به صمم وأن تصل إلى كل فرد في هذه الدنيا الواسعة.

فالقراءات المحببة التي دعمتني وروت بذرة حب الكتابة في دواخلي كانت القصص الشعرية للدكتور عبد الله الطيب كما ديوانه أصداء النيل، قصة عمرو بن يربوع والسلحفاة والسندباد البحري.

فدوى سعد: بعدها طفت أجوب مدارات القراءات الأديبة، فقرأت للطيب صالح، عمر الصايم الهادي، باولو كويلو وهاروكي مروكامي، وأعتقد أن تنوع القراءات يخلق تمازجا تخيليا، كتابيا، فكريا، نفسيا ومجتمعيا بداخل الأديب فيهذب ذلك أدواته الأدبية وملكته السردية فضلًا عن تعلم التقنيات المستخدمة في تستطير الحدث لدى الذين ذكرتهم أعلاه، على سبيل المثال لا الحصر.

هل رواية جدارية العاج هو العمل الأول على الإطلاق … أم كان هناك محاولات قليلة لم ترَ بعد النور؟ حدثينا عن بداية العمل وحتى اكتماله …

فدوى سعد: كنت قد كتبت قبلها في السنة الثانية بالجامعة رواية “فرسان البحار السبعة”، لكن بكل أسف فقد فقدت أجزاء كبيرة من مسودتها الورقية. فلم أجد متسع من الوقت لكي أعيد صياغتها من جديد، فصارت في سجل المفقودات.

لقد نما عمل جدارية العاج عبر سنوات اصطحبت واقع مجتمعي ومواكبة شخصياته. نسجتها بهدوء تام ربما انعكاس هذا الهدوء قد تبدّى في ملامح الشخصيات التي تفوق العشر داخل الرواية. حدث النضوج التام عام 2020 وتم تفريغ الأحداث والمواقف والشخصيات من الذاكرة إلى الورق وامتدت تلك الفترة إلى ثلاثة أشهر من الكتابة المتواصلة، فتمددت حينئذ شخصيات فرضت سطوتها على النصّ وتغيرت بعض الأسماء التي عشت فيها مع الأبطال جميع المشاعر الإنسانية الخاصة بهم، أفراحهم، أحزانهم واضطراباتهم النفسية.  

نسجت جدارية العاج تفرد الشخصيات وجعلت لكل فرد منها حوارا وفكرا خاصا، ذلك لم يكن بالأمر السهل، بيد أنّ سعادتي بما أكتب ومتعتي في العيش داخل الرواية سهلت عليّ مشوار الكتابة والاسترسال فظلّ هذا الأخير هادئا ومستقرا حتى آخر المطاف.

اذكري لنا مؤلفات سحرتك أقلامهما وما بها من تصوير روائيّ أو فلنقل تشكيلو-سرديّ؟ فهناك بعض المشاهد وكأنها شعرية في الجدارية.

فدوى سعد: مؤلفات الدكتور عبد الله الطيب وأعتقد أن تجربتي الأولى كانت مع كتابة الشعر، وقد سرت في هذا الطريق بطريقة غير إرادية، غير مخطط لها من الأصل.

ماذا عن السرد السيكولوجي في جدارية العاج: الصراعات النفسيّة التي تنعكس بصورة أو أخرى في مجتمعاتنا المتمزقة؟ الدين والدولة، الدين والعلمانية، الإباحيّة وبعض أشكالها، إلخ. (هل هناك حذر لتطرق قضايا مثل الإباحية مثلًا؟)

فدوى سعد: يكتب الكاتب ليتنفس ذلك تحت حاجة الحالة الكتابية، فهدف جدارية العاج هو الحديث عن ذات النفس البشرية والصراعات النفسية الداخلية غير المسموح البوح بها أو بالتحدث عنها. لذلك ما تتطلبه الحالة الكتابية مني أسطره دون تردد.

هناك موروث جبّار للكتاب الألمان (على سبيل المثال – غوته وريلكه) عن الشرق، هل فكرت يوما ما في كتابة رواية تدور أحداثها بين أوروبا والسودان رغم أن الرواية الأخيرة جرت بعض أحداثها في أفريقيا، فهل فكرتم في رواية تاريخية تجبدون فيها خيوط الماضي وتضعونها في صحن بديع للقراء بين الغرب والشرق؟

فدوى سعد: ما جعلني أكتب وأضع خطة لكتابة عدد من الروايات بين السودان وأفريقيا يعزى للتطرق القليل للقارة داخل الرواية السودانية. نشأنا على كتابات روائية رابطة بين السودان والعالم العربي والأوروبي لدرجة يمكننا زيارة بعض الدول ونتخذ من الراوية مرشدا سياحيا وتاريخيا. لذلك فالأفكار موجودة ما دام القلم يكتب بشغفه للكتابة ومع المتعة فيها.

يقال إن الرواية نص موسوعي يسعى إلى تمثيل ما يعتري الوجود من أنساق ثقافية وسياسية واجتماعية، كيف تعزز فدوى سعد مدونتها النصية بالانفتاح على مختلف الحقول المعرفية لتعزيز خطابها الروائي من أجل تمثيل ناجع لقلق هذا الإنسان؟

فدوى سعد: الفكرة الروائية تحتاج لما ذكرت للنبض والمواكبة والمجتمعات والإنسان في حالات تغلب وتقدم وتغيير، تغذية الكاتب، مقدرته الفكرية واستعداده للمواكبة اللغوية والنمطية للسلوك والطرق الكتابية الحديثة والمعرفة والقراءات المستمرة لمختلف ضروب الكتابة يُمكن الكاتب من كتابة مؤلفات تكون لها الديمومة المجتمعية.

تعد الفكرة جوهر العمل الروائي، باعتبارها البذرة التي تتشكل عملا سرديا سويا، من أين تستل فدوى سعد الخيط الأول لإنتاجها الإبداعي لممارسة عملية النسج الحكائي؟

فدوى سعد: الكاتب وليد مجتمعه وبيئته وكل ما يحيط به ودوما البذرة وليدة صدفة فتنمو لتكبر. هنا يوجد فرق بين كاتب هاوٍ وكاتب محترف، المحترف قد يضع خطة للمواضيع التي سيتناولها. والهاوي مثلي تبدأ لديه الحكاية كيف شاءت أن تبدأ، هي من نظرة، سلوك، تصرف أو حدث وتصطحب بعدها من خلال تكوين الشخصيات مجريات الرواية.

في مقابل هذا التكثيف الفعال للزمان والمكان، نسجل في جدارية العاج نزوعا نحو تقليل الشخوص، إلى حد يمكن أن نصف معه أعمالك بروايات البطولة الفردناية، هل هو صراع بين الخير والشر، ما دلالة هذا الاختيار؟

فدوى سعد: الشخوص خلقتهم الحالة الكتابية وبالفعل الحالة الكتابية كيبوتسا (الرواية الثانية) شخوص محدودة. الخيارات غير موجودة لدى الكاتب الهاوي فهو لا يعلم ما سوف يكتب. فقط فكرة ما يسقطها لخيالة فتنسج حولها الحكاية.

يزعم بعض النقاد أن الجدارية ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة لكنها (مجموعة قصص) ربط بينها حتى تستوفى شروط الأسس في الرواية؟

فدوى سعد: إن ما دفع بالنقاد إلى هذا الاتجاه عنونة الأجزاء. أعطت العنونة إحساس بالانغلاق الموضوعي، إذا لم تكن موجودة لما وصل هذا الإحساس. فثيمة اليتيم شملت شخوص الرواية ومن الصعب كتابة قصص متفرقة ثم جمعها حتى لا تختل الثيمة.

من الأسس التي ينبني عليها فعل التسريد لديك نجد ذلك الاستناد على الإمعان الجيد والتصوير المميز (كما في مشاهد عدّة تُعنى بالبيئة والحيوانات مثال الطيور)، في سرد الحكاية؟

فدوى سعد: الكتب هي الزائر الغامض: غلاف جاذب ومحتوى مجهول. من مسئوليتي الكتابية التي أضعها على عاتقي مهما كان المحتوى: يجب أن تكون هناك فائدة معرفية ما، أو لفت انتباه لمشكلة مجتمعية بمعنى أشمل، وأن يجد القارئ شيئا ما يفيده نفسيا، سلوكيا أو مجتمعيا.

هل يمكن أن نصنف جدارية العاج كبداية للرواية البيئيّة؟

فدوى سعد: عند كتابتها لمن يكن المقصد أن تكون كذلك. وأصابت الجدارية هدفا جميلا بغير خطة مزمعة سلفًا. جدارية العاج بيئية، معرفية، عاطفية، يمكن للناقد أو القارئ أن يضعها تحت المسمى الذي يحس به وله شواهد عليه.

خذي بعض الأجزاء المحببة إلى نفسك من قلب الرواية وحدثينا عنها: “رأيتُهم تحتَ ظل شجرة الباوباب المُعَمِّرة يضعُ فِي عنقها عقدًا مِن أزهار الجازانيا البيضاء، وانحنى؛ ليضع قُبلةَ الحبِّ فِي فمها، في مسافة الحبِّ صاحتِ الأشجارُ والمياه والحيوان، الصيَّادون قادمون، فزعتْ طيور الجنة، غَطَّى خوفها السَّمَاء. انتزعوها مِن سمو الحبِّ، باعها الصياد للغريبِ ثمن الحسناء بندقيتين و10 لفات مِن القماش، وباعوه بِصُرَّةٍ مِن البارود.”

فدوى سعد: إن القراءة المصاحبة أو المدعمة لكاتبة حديثة العهد بالرواية تقتضي فيها حاجة الحالة الكتابية لـ معلومات داعمة للعمل، فلجأت في الجدارية لفترة العبودية في أفريقيا فقرأت كتاب “تجارة الرقيق” في أفريقيا للكاتبة المصرية عايدة العزب موسى، كتاب من 257 صفحة، لتزويد جدارية العاج بالمعلومة التاريخية الحقيقية. مثال إن الحسناء تباع بعشر لفات من القماش والصبي بصندوق من النبيذ فأتيت بصرة من البارود عوضا عن النبيذ كمثال.  فالقراءة المدعمة كان لها دور بارز في تحلية وتدعيم القصص، فجاءت ها هنا زيارة كينيا كزيارة معرفية خيالية بالإضافة لطرق صناعة الكموبست مثلًا أو تربية التماسيح.

“لم يكن يعرفون كلمة السّلام؛ لأنَّهم يملكون ما هو أجمل مِنها، يملكون ما فُطِروا عليه: أوثادو، مابنزي، سويويا، الحبُّ، ني نيفي، أري يني هوك”

فدوى سعد: كان التنوع اللغوي الأفريقي كلهجات ولغات مكتوبة مهما جدًا في سياق كتابة للجدارية، فتناولت وقتئذ مثلًا، كلمة “الحب” بوقعها الجميل في تلك اللهجات، فجدارية العاج جعلتني أتنقل بين لهجات الشونا، الزولو البني عامر، الماساي واليوربا من أجل معرفة كيف تكتب أو تنطق المفردة السيميائية التي تتحد عندها الإنسانية.

“ماذا أرسم ندبة علي يد العشق تسكن قبر، حائط أمانٍ تلاشي في تصريفِ قَدَرٍ؟ أَمْ أرسمُ صدرًا واسعًا لا آثار لِي فيه ولا بقايا عطر، أرسمُ قصصًا بلا أفواهٍ، ليلًا مضاءةً أنوارُه، ولن تُطْفَأ حين مِزاح.. ماذا أُسَمِّي اللوحات؛ حنانٌ مفقودٌ، عطرٌ برائحة الحنوط، أمْ طل يسقط حيثُ لا وجود لأرضٍ؟”

فدوى سعد: هنا نجد الخيال التصويري أو المشهدي كطريقة من طرق السرد الحديثة. فطل التاج كشخصية وضحت ذلك في مشاهد لوحة رسم وإحساس عاطفة. الكاتب هو اللص أو المتلصص للانعكاسات المشاعر والأحاديث ومقدرته ترجمه الأحاسيس أيًّا كان نوعها لحكي قصة قد يعجز صاحبها من وصفها، فنظرات اليتيم وطرق العناق كنت أقنصها وأتلصص عليها كواقع وردود أفعال من قلب بيئتي ومجتمعي.

كلمة أخيرة عن دأبك الأدبي وعن الجدارية وإجابات عن أسئلة ربما لم تخطر لنا ببال ولم نطرحها في سياق هذا الحوار.

فدوى سعد: عامين للقراءة وعام أكتب فيه أكملت الرواية الثانية قبل أيام، ذلك بعد عامين من كتابة جدارية العاج. أما فيما يخص الكتابة للأطفال فالآن بين يديّ مسودة لم تكتمل بعد، لصعوبات التعلم للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فالعمل ينطوي على رسومات مصحوبة بقصائد قصيرة.

الجدارية ستظل الكتاب الذي استمعت بكتابته، وتوجد بها مشكلات في التدقيق اللغوي، نشر الطبعة الثانية بإذن الله، بالإضافة إلى الترجمة والاقتراحات المتعددة بأنها تصلح لعمل دارمي، مما يدعوني للسير قدمًا في اتجاه كتابة سيناريو.

الشكر لصحيفة المدائن بوست في شخص الأستاذ محمد بدوي مصطفى لإتاحتهما لي الفرصة أن أتحدث عن جدارية العاج؛ وجدت الأسئلة عميقة وغير متداولة، بكل صراحة هذا حوار بالجد أحسست فيه بعمق معرفيّ، لجميع النواحي.

107137-cover_arabisch_marrokanischer_roman_untha_bugafir.jpg

حين حان موعد الملحمة الكبرى

يكتب محمد بدوي مصطفى: “لي الشرف وعظيم الامتنان أن أقدم إليكم يا سادتي في هذا المقال روائيا مغربيا، رغم حداثة سنّه أعده من أولئك الذين وهبهم الله ملكة سحر الناس بالمداد”.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

رحلة شيقة عبر التاريخ والحقب: هذا الرجل أديب وكاتب وناقد من العيار (“اللي هوَّ”) يتنقل متوجساً تارة، حائرًا تارة أخرى، من شغل تدوين وتوثيق تاريخ وتراث إرثه التليد الذي يضرب بعمق في أعماق الأرض، سعيد هو وسعداء نحن حينما يتنقل هذا الشاب الجريئ في فصاحة قلمه بين حقول الأدب وبساتين العلم كما تحوم النحلة بدأبها المعهود بين زهيرات الربيع اليانعة، براعم التراث، تويجات صفحات التاريخ.

يضرب الصخر بشهامة فكره حتى تنبجس منه أعين ودرر من الحكايات والروائع كالسلسبيل؛ ينظمها كالنجيمات في مجرات الثريا في عقد فريد، نظم جديد، لون عصيد، ولحن يزيد. يا للألق ويا للجمال، هنيئا لنا به وهنيئا لعشاق الرواية بما سيكشفه لنا في أنثى بوگافر.

جمال ما ينسج وكمال ما يحكي

إنني لن أغالي يا سادتي إن قلت أن هذا الرجل سوف يغير مسار الرواية في مخيال العقل العربي وفي طريقة سرد ونسج الرواية بلغة رصينة وسردية معصرنة. نعم، خطاب سرديّ سهل ممتنع وممتنع سهل، ودون أدنى شك سوف تتحدث عنه المحافل أكثر وأكثر، لروعة ما يكتب، ولسحر ما يسرد، ولجمال ما ينسج ولكمال ما يحكي، والكمال لله أوله وآخره.

رأى مولد هذا الشاب والكاتب البديع، الرجل الهميم، سعيد في منطقة أكنول في عام ١٩٨٠، فأنتم ترون أنه لا يزال حديث السنّ، بض اليراع، لين النسيج، ورغم ذلك فسوف يتحفنا بالكثير الوفير من فنّ سرده وألق يراعه الذي، في الحقيقة، كريشة التشكيليّ، يتغنى ويرسم بنغمات الملحون المغربي الأصيل وكأنما نراه يجالس حسان السرد وغيان التاريخ على هضبة سايس على علو خمسمائة متر، بين الأطلس المتوسط إلى الجنوب، وتلال ما قبل الريف إلى الشمال.

يعبر بقلمه نهر بوفكران، الذي يفصل المدينة القديمة عن الجديدة. ويذكرني هذا المشهد، ببيت شعر، لأستاذي وشيخي صلاح أحمد إبراهيم، شاعر العرب، عندما يقول: يا مرّية ليتني على الأولمب جالس وحواليّ العرائس. فصلاح صعد هذه القمة وسعيد في الطريق إليها بجهده ومثابرته وفنّه الرفيع.

شعار جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي. At Tayyib Salih Award - Sudan LOGO sd.zain.com
سعيد بودبوز كاتب وناقد مغربي من مواليد منطقة أكنول 15/ 7/ 1980: فاز بـ “جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي” (المرتبة الثالثة) عن مجموعة قصصية بعنوان “ثور وثورة” سنة 2017. وفاز بجائزة “الهيئة العربية للمسرح” (المرتبة الثانية) عن نصه المسرحي “الحفّارون وقادة الهرب” سنة 2020. صدر له: 1- “بين ضفة السراء وضفة الضراء” عن مطبعة سجلماسة بمكناس – المغرب سنة 2011. 2- “نحو مورفولوجيا القصة الحديثة” عن دار “اليازوري” للنشر والتوزيع بالأردن سنة 2015. 3- “سيميائية المركز والهامش في الأدب العربي المعاصر” عن دار “الأيام” للنشر والتوزيع بالأردن سنة 2016. 4- “ثور وثورة”، وهي المجموعة القصصية الفائزة بجائزة الطيب صالح. صدرت عن عن شركة “زين” السودانية سنة 2018. كتب الدكتور جميل حمداوي عن كتاب “بين ضفة السراء وضفة الضراء” دراسة قيمة بعنوان “النقد السيميولوجي بالمغرب-سعيد بودبوز نموذجاً” نشرت بالعدد 9 من مجلة “الرقيم” العراقية، وأعيد نشرها بمجلة “أقلام” وعبر العديد من المواقع الرقمية.

كرفانات الرواية تتوالي أمام أعين القارئ العربي فالمغرب الحبيب لم يطلق آخر رصاصة في جعبته، ولنذكر من أولئك المُلهَمين الأستاذ عبد العزيز كوكاس، أمامة قزيز، عبد الباسط زخنيني، سعيد الخيز، وغيرهم من الأدباء الأوفياء لقلمهم وتراثهم الأصيل. فسوف تتحدث عنهم صحائف التاريخ وتكتب عنهم بمداد من ماء الزهورات ورحيق الـ … .

سعيد بودبوز كاتب وناقد مغربي من مواليد منطقة أكنول 15/7/1980. فاز بـ “جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي” (المرتبة الثالثة) عن مجموعة قصصية بعنوان “ثور وثورة” سنة 2017. وفاز بجائزة “الهيئة العربية للمسرح” (المرتبة الثانية) عن نصه المسرحي “الحفّارون وقادة الهرب” سنة 2020.

تحكي هذه الرواية عن سيرة تاريخية لبطلة أمازيغية حقيقية خلّدتها الأشعار والروايات الشفاهية في جنوب شرق المغرب، وهي الشاعرة والمقاوِمة العطّاوية “عدجو” من قبيلة “آيت عطّا” الشرسة التي أظهرت شجاعة خارقة في مقاومة الحملة الاستعمارية الفرنسية في معركة “بوگافر”.

وتحكي الرواية كيف بدأت معاناة عدجو مع الفرنسيين منذ احتلالهم واحة تافيلالت نوفمبر عام 1917، حيث اضطرّت عدجو لمغادرة الواحة التي أحبّتها وعاشت فيها أجمل أيام شبابها، فرحلت مع والديها عائدين إلى قريتهم الأمّ في جبل صاغرو.

ثم شارك أبوها في معركة البطحاء التي أسفرت عن تحرير تافلالت في أكتوبر عام 1918، ولكن في هذه المعركة تفقد عدجو والدها، فتزداد كراهيتها للفرنسيين، وتخوض تدريبات شاقة على السلاح بمساعدة خطيبها لَحْسَن الذي سيتزوّجها عام 1920.

غير أنّ الفرنسيين المطرودين من تافلالت، شرق صاغرو، سرعان ما يحتلون واحات درعة غرب صاغرو، وكذلك واحة تودغى في شماله، ثم أخيراً يحتلون تافيلالت يناير عام 1932.

حين حان موعد الملحمة الكبرى

وكان زوجها يمنعها من المشاركة في المناوشات التي يشنّها المقاومون على مراكز العدوّ الفرنسي، إلى أن حان موعد الملحمة الكبرى في فبراير عام 1933، حيث تصعد عدجو إلى الجبل مع آلاف من الأسر العطّاوية الرافضة للاستعمار، والمؤيدة للمقاومين. وبعد معارك طاحنة، تفقد زوجها، ثم تفقد أمها التي توفيت مع العشرات ممن توفوا نتيجة الأمراض الناجمة عن روائح الجثث. لكن عدجو تكون على رأس النساء العطّاويات الرافضات لأي تفاوض أو صلح مع الفرنسيين، إلى درجة أن من جنح لمصالحة الفرنسيين من الرجال، يخلّدن ذمّه في قصائدهنّ.

وتحكي هذه الرواية بتفصيل فنّي تلك المعجزة التاريخية التي تحقّقت على يد عدجو، وهي أنّ عدجو دحرجت صخرة عملاقة على فرقة عسكرية فرنسية فأسقطت ما لا يقل عن 40 جنديا محتلّا دفعة واحدة !

وأخيراً، بعدما يتفاوض بقية المقاومين مع الفرنسيين بشأن الاستسلام مقابل شروط معينة، ينزل المقاومون عن الجبل، وتبقى عدجو وحدها مسلحة هناك، ثم تحاصرها فرقة عسكرية فرنسية، فتقاتلها عدجو حتى تستشهد.

*** *** ***

نبذة عن مدينة مكناس – التي لعبت دورا هاما في تاريخ الغرب الإسلامي

تقع مدينة مكناس في هضبة سايس على علو خمسمائة متر، بين الأطلس المتوسط إلى الجنوب وتلال ما قبل الريف إلى الشمال. يعبر المدينة نهر بوفكران، الذي يفصل المدينة القديمة عن المدينة الجديدة.

ومكناس تتوسط منطقة فلاحية خصبة، تمتاز بكثرة أشجار الزيتون، والذي يستغل منه الكثير للعصر واستخراج الزيت.

وزيت الزيتون المكناسي مشهور بجودته. كذلك تشتهر المنطقة بحقول العنب والذي يمتاز بجودته ويتم تصديره إلى عواصم أوروبية.

وتعتبر مدينة مكناس من أكثر مدن المغرب إنتاجا للمحاصيل الزراعية، نظرا لمناخها المناسب ووفرة مياه الأمطار.

كما تقع المدينة في ملتقى الطرق التجارية التي كانت تربط بين عدة جهات مما جعل منها منطقة عبور واستقرار منذ عهد قديم، خصوصا في العصر الوسيط حيث برز اسمها لأول مرة كحاضرة، ثم في العصر الحديث كعاصمة من أبرز العواصم التي لعبت دورا هاما في تاريخ الغرب الإسلامي.

تأسست مدينة مكناس في عام 711 من طرف قبيلة مكناسة الأمازيغية، ومنها تستمد اسمها. هي واحدة من المدن الإمبراطورية الأربع في المغرب وسادس أكبر مدينة في المملكة وفقا للتعداد وكانت عاصمة للمغرب في عهد مولاي إسماعيل (1672-1727). وتم تسجيل مدينة مكناس تراثا تاريخيا لليونسكو منذ عام 1996.

في تعداد عام 2014، بلغ عدد سكان مدينة مكناس 520428 نسمة بعدما كان في عام 2004، 469169 نسمة.

تاريخ مكناس

رغم أن مدينة مكناس أسست في القرن الثامن الميلادي، إلا أنها لم تصبح حاضرة إلا مع مجيء المرابطين حيث ازدهرت المدينة، وظهرت بعض الأحياء أهمها القصبة المرابطية “تاكرارت” كما شيدوا مسجد النجارين وأحاطوا المدينة بسور في نهاية عهدهم. ويعتبر الحي الذي لا يزال يوجد قرب مسجد النجارين المشيد من طرف المرابطين أقدم أحياء المدينة.

تحت حكم الموحدين عرفت المدينة ازدهارا عمرانيا حيث تم توسيع المسجد الكبير في عهد محمد الناصر (1199-1213م)، وتزويد المدينة بالماء بواسطة نظام متطور انطلاقا من عين “تاكما” لتلبية حاجيات الحمامات والمساجد والسقايات كما عرف هذا العهد ظهور أحياء جديدة مثل حي الحمام الجديد وحي سيدي أحمد بن خضرة.

خلال العهد المريني شهدت المدينة استقرار عدد كبير من الأندلسيين قدموا إلى مكناس بعد سقوط أهم مراكز الأندلس. وقد شيد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب (1269- 1286م) قصبة خارج المدينة لم يصمد منها إلا المسجد المعروف بلالا عودة. كما عرفت مكناسة الزيتون بناء مدارس عتيقة كمدرسة فيلالة، والمدرسة البوعنانية ومدرسة العدول، و مساجد مثل مسجد التوتة ومسجد الزرقاء، وخزانة الجامع الكبير ومارستان الباب الجديد وحمام السويقة.

في عهد الدولة العلوية، خاصة إبان فترة حكم السلطان المولى إسماعيل، استعادت المدينة مكانتها كعاصمة للدولة، بحيث عرفت أزهى فترات تاريخها. فقد شيدت بها بنايات ذات طابع ديني كمسجد باب البردعيين ومسجد الزيتونة ومسجد سيدي سعيد، وتوحي منارات هذه المساجد من خلال طريقة تزيينها بتأثير سعدي واضح. بالإضافة إلى القصور وبنايات أخرى هامة، فقد قام السلطان المولى إسماعيل بتشييد الدار الكبيرة فوق أنقاض القصبة المرينية وجزء من المدينة القديمة.

كما أنه أنجز حدائق عديدة (البحراوية-السواني)، وإسطبلات للخيول ومخازن للحبوب وصهريجا لتزويد الأحياء بالماء، وأحاط المدينة بسور تتخلله عدة أبراج عمرانية ضخمة وأبواب تاريخية كباب منصور وباب البردعيين.

قرب هذه الأبواب أعدت عدة فنادق أو محطات لاستراحة القادمين من مناطق بعيدة، أما الأسواق فكانت منظمة وتعرف بحسب نوع الحرفة أو الصناعة، مثل سوق النجارة وسوق الحدادة وغيرها.

لم تتنازل مكناس عن أهميتها كمدينة مخزنية وحاضرة كبرى حتى عندما فقدت صفتها كعاصمة سياسية للعلويين خلال المنتصف الثاني من القرن 18م لفائدة جارتها فاس في بداية الأمر إذ كانت سكنا مفضلا لعدد من الأمراء ورجال الدولة.

خلال خضوع المغرب للحماية الفرنسية ابتداء من سنة 1912، شيد الفرنسيون المدينة الجديدة على الطراز الأوروبي بشوارعها وعماراتها وحدائقها وأحيائها الصناعية والتجارية والسكنية وكافة مرافقها الإدارية والعسكرية والرياضية والثقافية في المنطقة المعروفة بحمرية، حيث بدأت المدينة تستعيد بعض أدوارها كموقع استراتيجي له أهمية عسكرية واقتصادية بالدرجة الأولى.

 محمد بدوي مصطفى

حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى 2022

ar.Qantara.de

نُشرت لسعيد بودبوز العديد من النصوص والمقالات بالعديد من المجلات والصحف المغربية والعربية، منها مجلة “الرافد” الإماراتية، مجلة “الإمارات الثقافية”، مجلة “الجوبة” السعودية، مجلة “قوافل” السعودية، مجلة “الهلال” المصرية، مجلة “حسمى” السعودية”، مجلة “سيسرا” السعودية”، مجلة “المجلة العربية” السعودية، مجلة “إشراق” المصرية، مجلة “قوارئ” السعودية، مجلة “رؤى” الليبية، مجلة “الرقيم” العراقية، مجلة “روز اليوسف” المصرية، مجلة “الثقافي” العراقية، مجلة “طنجة الأدبية”، جريدة “الجريدة” العراقية، صحيفة “الزمان” الدولية، صحيفة “القدس العربي”، جريدة “أگراو أمازيغ” المغربية، جريدة “الاتحاد الاشتراكي” المغربية، جريدة “تاويزا” المغربية، جريدة “الخبر” المغربية، جريدة “سايس أخبار” المغربية، جريدة “العرب” الصادرة بلندن (بريطانيا)، صحيفة “الثورة” السورية، صحيفة “المجلس الثقافي” الليبية، جريدة “بيان اليوم” المغربية، جريدة “المستشار” العراقية، جريدة “أخبار اليوم” المغربية.

ترجم له الشاعر الفلسطيني “منير مزيد” قصيدة بعنوان “قصيدة من الشعير” إلى اللغتين؛ الإنجليزية والرومانية، وتم إدراجها ضمن الأنطولوجيا العربية المسماة “قلائد الذهب الشعرية”

asdf

أول كاتبة أمريكية سمراء من أصل إفريقي

جُلِبَتْ طفلةً من غرب إفريقيا إلى الولايات المتحدة. توفيت في سن 31 عامَ 1784. كانت الحرية عامودا متوطدا بداخلها. لم يصدق أحد كتابتها للشعر فحوكِمتْ وحكمت المحكمة لصالحها. الكاتب محمد بدوي مصطفى.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

اشترتها عائلة وهي بنت السابعة: على الرغم من عدم توثيق تاريخ ومكان ولادتها، يعتقد المؤرخون أن فيليس ويتلي ولدت عام 1753 في غرب إفريقيا، وعلى الأرجح في غامبيا أو السنغال الحالية. تم بيعها من قبل زعيم محلي لتاجر زائر من البيض، الذي أخذها على متين سفينته إلى بوسطن، التي وقعت بها حينئذ مستعمرة ماساتشوستس البريطانية.

وكان ذلك في 11 يوليو / تموز 1761، عندما حملتها سفينة عبيد تسمى فيليس، كانت مملوكة لشخص يدعى تيموثي فيتش ورباناها يدعى بيتر جوين. فور وصولها إلى بوسطن، عُرضت البضاعة بسوق الرقيق، حيث اشتراها تاجر من تجار بوسطن الأثرياء، وكان يمتهن الخياطة حرفة، هو جون ويتلي، استحوذ عليها كعبدة، هدية لزوجته سوزانا.

للشاعرة فيليس ويتلي - قصائد حول مواضيع مختلفة دينية وأخلاقية. أول كاتبة أمريكية سمراء من أصل إفريقي. Phillis Wheatley - Houghton Library Poems on Various Subjects, Religious and Moral 1773
للشاعرة فيليس ويتلي – قصائد حول مواضيع مختلفة دينية وأخلاقية. أول كاتبة أمريكية سمراء من أصل إفريقي – كانت الحرية من أهم الأعمدة التي توطدت بدواخل الشاعرة فيليس ويتلي: وهذا ما دعاها لأن تكتب رسالة إلى القس سامسون أوكوم، تثني على أفكاره ومعتقداته التي تنص على أن الأشخاص المستعبدين يجب أن يحصلوا على حقوقهم الطبيعية في أمريكا. أول كاتبة أمريكية سمراء البشرة، من أصل إفريقي، قامت بنشر كتاب لها في الولايات المتحدة، لنقل إنها كانت أوّل كاتبة على الإطلاق. وقد تم تحرير الشاعرة فيليس من قيود العبودية بعد فترة قصيرة من نشرها لديوانها الأول في سبتمبر 1773.

ومنذ قدومها أطلق عليها جون وسوزانا ويتلي اسم Phillis ، تيمنا باسم السفينة التي نقلتها إلى أمريكا. وكما كانت العادة الشائعة أعطيت كنية العائلة ويتلى، حيث جرت العادة بين المستعبدين من الزنوج الذي جُلبوا من إفريقيا، إذ كانوا يحملون أسماء أسرهم.

كانت تلك الانطلاقة مُرّة وقاسية للطفلة، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ حيث أُتي بها وبآخرين من بني جلدتها، على أيدي مهربين كان يطلق عليهم مهربي اللحم الحي. أتوا بها إلى بوسطن، حيث طرحهم تجار الرقيق للبيع بمزادات علنيه، ندهوا عليها كما يفعلون عندما يبيعون الماشية أو الكلاب، منادين “عمرها سبع سنوات فقط! ستكون مهرة نشطة وخادمة جيدة!”. على أيّة حال، تم بيعها ومن ثمّة امتلاكها من قبل العديد من تجار الرقيق، حتى انتهي بها المطاف إلى عائلة ويتلي.

تلك الطفلة التي سماها من اشتروها فيليس ويتلي، وهكذا يكتب الاسم بالإنجليزية: Phillis Wheatley جُلبت وهي في سنّ الطفولة المبكرة من بلدها من شواطئ القارة السمراء. يا تُرى ما كان اسمها من قبل، قبيل أن تسمى بهذا الاسم الانكليزي وقبيل أن تغير ديانتها، التي ربما كانت الإسلام أو الوثنية، وأن يُغيَّر اسم الإنسان بعد أن سلق عليه، ليس بالأمر السهل، والاسم مثل الجلدة، إن انسلخ عنها، ضاع.

ذاقت مذ أن أبصرت عيناها على العالم الجديد مرارة الغربة واضطهاد التغرّب، بيد أنها وبملكاتها الذهنية والعقلية الرهيبة استطاعت أن تحقق طموحاتها، فغدت مع مرور السنين وفي سن يافعة، شاعرة وكاتبة أمريكية يشار إليها بالبنان. عندما استقر بها المقام في مدينة بوسطن هناك تعلمت القراءة والكتابة في بيت العائلة، وانطلقت موهبتها في الشعر والأدب لا تلوي على شيء إلا وتنهم كنوز هذه اللغة الجديدة، وتلك العلوم المتعددة التي تعلمتها على يد ابنة الأسرة. كانت ماري ابنة الأسرة البالغة من العمر 18 عامًا، أول معلمة لفيليس في القراءة والكتابة.

كما كان يساعدها ابن الأسرة ناثانيال في كثير من المرات ونشأت علاقة حميمة بينهما وبين فيليس وهذا الانفتاح يرجع لأن جون ويتلي كان معروفًا بأنه تقدمي في جميع أنحاء نيو إنغلاند. منحت عائلته فيليس تعليما غير مسبوق لشخص مستعبد، وتعليما غير معتاد لأي امرأة مستعبدة، وحين بلغت سن الثانية عشرة، كانت تقرأ الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية بلغتها الأصلية، بالإضافة إلى مقاطع صعبة من الكتاب المقدس. وفي سن الرابعة عشرة، كتبت قصيدتها الأولى، “إلى جامعة كامبريدج [هارفارد]، في نيو إنغلاند”.

اعترافًا بقدرتها الأدبية، دعمت عائلة ويتلي تعليم فيليس وتركت العمل المنزلي لعمالها المنزليين المستعبدين الآخرين. غالبًا ما أظهرت عائلة ويتلي قدراتها للأصدقاء وكانوا فخورين بها أيما فخر وأنهم استطاعوا أن يحققوا معجزة، امرأة زنجية ترفل في ترهات العلم والمعرفة، ذلك لم يكن بالأمر المتعارف عليه إذَّاك. تأثرت فيليس بشدة بقراءاتها لأعمال ألكسندر بوب، جون ميلتون، هوميروس، هوراس، وفيرجيل، وبدأت لا تلوي على شيء إلا وتكتب الشعر وتنظم القصائد.

والمدهش أنها وفي تلك السن المبكرة كانت تكتب الشعر بلغة غير لغتها الأم، بدايةً، لم يصدقها أحد، أنها هي من كتبت تلك النصوص الشعرية؛ كانت تكتب قصائد بموضوعات متباينة، كتبت عن الوطن والأخلاق والدين لإنجلترا وللمستعمرات الأمريكية وقد كتبت أيضاً عن جورج واشنطن، كما تعرفت أيضاً على الشاعر الزنجي جوبيتر هامون.

المحكمة: من أين لكِ هذا؟

وهي ترفل في سن العشرين وبعد أن ذاع سيطها في محيطها الاجتماعي وبصالونات الشعر والأدب، جاءت دعوى غير مرتقبة من المحكمة تطعن وتشكك بأن الأشعار التي كتبتها بقلمها وألفتها بفكرها ما هي إلا اقتباسات من أشعار بعض الشعراء البيض. واستكانت للدعوى وجاء يوم الحساب والاستجواب ووقفت ماثلة في قفص الاتهام تُسأل عن الأمر في كل لمحة ونفس. كانت المحكمة يومئذ تتألف من ثمانية عشر قاضيًا يرتدون –كما هو متعارف عليه– الملابس التقليدية التي يلبسها القضاة والمحامون عادةً في جلسات المحكمة وكل منهم يلبس باروكة من الشعر المستعار.

والخبث أتى من الاعتقاد الراسخ آنذاك بين العديد من المستعمرين في صعوبة تصديق أمر كهذا: ليس بالإمكان أن يكتب الزنجي شعرًا ممتازًا”، أو لنقل شعرًا على الإطلاق. فما كان من فيليس ويتلي إلا أن تدافع عن نفسها وعن تأليفها لشعرها أمام المحكمة في عام 1772. وأثناء المرافعة، تم فحص الشاعرة كما الشعر من قبل مجموعة من الشخصيات البارزة في بوسطن، بما في ذلك جون إرفينغ، القس تشارلز تشونسي، جون هانكوك، توماس هاتشينسون، حاكم ولاية ماساتشوستس، وملازمه الحاكم أندرو أوليفر.

كنيسة الشاعرة فيليس ويتلي - بوسطن - أول كاتبة أمريكية سمراء من أصل إفريقي. Phillis Wheatley's church - Boston Foto Wikipedia Public Domain
كنيسة الشاعرة فيليس ويتلي في بوسطن الأمريكية: لم يصدق أحد كتابتها للشعر فحوكِمتْ وحكمت المحكمة لصالحها: في البداية قيل إنه ليس بالإمكان أن يكتب الزنجي شعرًا ممتازًا”، أو لنقل شعرًا على الإطلاق. فما كان من فيليس ويتلي إلا أن تدافع عن نفسها وعن تأليفها لشعرها أمام المحكمة في عام 1772. المدهش أنها في سن مبكرة كانت تكتب الشعر بلغة غير لغتها الأم، بدايةً، لم يصدقها أحد، أنها هي من كتبت تلك النصوص الشعرية؛ كانت تكتب قصائد بموضوعات متباينة، كتبت عن الوطن والأخلاق والدين لإنجلترا وللمستعمرات الأمريكية وقد كتبت أيضاً عن جورج واشنطن، كما تعرفت أيضاً على الشاعر الزنجي جوبيتر هامون. وهي ترفل في سن العشرين وبعد أن ذاع سيطها في محيطها الاجتماعي وبصالونات الشعر والأدب، جاءت دعوى غير مرتقبة من المحكمة تطعن وتشكك بأن الأشعار التي كتبتها بقلمها وألفتها بفكرها ما هي إلا اقتباسات من أشعار بعض الشعراء البيض. لم يصدق أحد كتابتها للشعر فحوكِمتْ وحكمت المحكمة لصالحها.

وخلصوا إلى أنها كتبت القصائد المنسوبة إليها ووقعت على شهادة، كانت مدرجة في مقدمة كتابها من الأعمال المجمعة: قصائد حول مواضيع مختلفة، دينية وأخلاقية، نُشرت في لندن عام 1773. رفض ناشرون في بوسطن نشر قصائد فيليس، بيد أن مؤلفاتها كانت ذات أهمية كبيرة للأشخاص المؤثرين في لندن.

على كلٍّ في ذلك اليوم المشؤوم وجب عليها أن تلقي على مسامع اللجنة المتكونة من القضاة الأجلاء نصوصًا بحضرة المحكمة، من “فيرجيل” و”ميلتون” وبعض العِبر من الكتاب المقدس وبعض المقاطع الصعبة منه، بطبيعة الحال وهكذا كان يقتضي الامتحان أن تُلقيها عن ظهر قلب، كما توجب عليها أيضًا أن تُقسم قسماً قاطعًا، أن القصائد التي كتبتها لم تكن مقتبسة من دواوين شعريه منسوبه لأدباء آخرين.

لنتخيل كيف كان الامتحان وكيف كانت حال هذه الفتاة اليافعة في ذاك اليوم. طالت ساعاته وطالت إجاباتها من الكرسي الذي خصص لها في قفص الاتهام، في ذاك المكان الذي يجلس فيه عادة المجرمون والقتلة. لكن في نهاية المطاف برّأتها المحكمة بعد أن أثبتت لهم أنها شاعرة، كاتبة وأديبة حتى بلغتهم وحافظة للكثير من آيِ الأناجيل. فيليس، شابة سوداء البشرة، مستعبدة، عاشت بين 1753 – 1784 وكانت هي أول كاتبة أمريكية سمراء البشرة، من أصل إفريقي، قامت بنشر كتاب لها في الولايات المتحدة، لنقل إنها كانت أوّل كاتبة على الإطلاق.

رحلة لندن والبحث عن ناشر

جدير بالذكر أنها بعد أن تعلمت القراءة والكتابة، شجعتها أسرتها -عندما رأوا موهبتها وأنها قادرة على مقارعة الكبار في حلبات الشعر والأدب والمعرفة- أن تسافر إلى ما وراء البحار، فسافرت في عام 1773 في رحلة إلى لندن مع ابن الأسرة سعيًا لنشر أعمالها، صاحبَتْهُ لأنها كانت مريضة بمرض الربو المزمن.

ولكن إلى حد كبير كانت رغبة سوزانا، ربّة الأسرة، فكانت تعتقد أن فيليس سيكون لديها فرصة أفضل لنشر قصائدها هناك. وقد نما لها فيما بعد جمهور يحبّ ما تكتب مثال فريدريك بول، الذي كان عمدة لندن، وأعضاء بارزين آخرين في المجتمع البريطاني.

ومع مرور الأيّام تم ترتيب لقاء مع الملك جورج الثالث، لكن فيليس عادت إلى بوسطن قبل أن يتم ذلك اللقاء الذي انتظرته بفارق الصبر. فيما بعد أصبحت سيلينا هاستينغز -كونتيسةُ هانتينغدون- مهتمةً بالمرأة الإفريقية الشابة الموهوبة ودعمت نشر ديوان قصائد ويتلى، الذي ظهر في لندن في صيف عام 1773.

هناك، عملت سيلينا وكونتيسة هانتينغدون وإيرل دارتموث كرعاة لمساعدة ويتلي في الحصول على تصريحات النشر. ولحسن الحظ فقد قامت مجلة لندن بالتعليق على إحدى قصائدها، ذلك في عام 1773، والتي كانت تحت عنوان “ترنيمة الصباح” كنموذج من أعمالها، حيث كتبت: “لا تظهر هذه القصائد قوة عبقريّة مذهلة؛ لكن عندما نعتبرها هي إنتاجات لشابة أفريقية غير متعلمة، كتبتها بعد ستة أشهر من الدراسة العرضية للغة الإنجليزية، فلا يمكننا أن نكتم إعجابنا بموهبة قوية وعبقرية حيوية “.

كانت رحلتها إلى لندن كما سبق ذكره، مع نَاثانيال، ابن الأسرة، لترعى أيضا أموره وما إلى ذلك من أمور الحياة. التقت فيليس بشخصيات بارزة في مجال النشر والشعر وصارت هذه الشخصيات فيما بعد من ترعى فيليس وتقف بجانبها. نشرت في تلك الفترة قصائد متعددة التيمات، منها الدينية والأخلاقية وذاع صيتها كشاعرة في لندن والمستعمرات الأمريكية وأشادت شخصيات مرموقة مثال جورج واشنطن بأعمالها، كما أشاد بها كشاعرة أمريكية من أصل إفريقي في قصائد له، الشاعر جوبيتر هامون. وقد تم تحرير الشاعرة فيليس من قيود العبودية بعد فترة قصيرة من نشرها لديوانها الأول في سبتمبر 1773.

الحريّة لفيليس

بعد أن نُشر ديوانها بحلول نوفمبر 1773، تم تحريرها فيليس من قيود العبودية وتوفيت بعد قليل من الأشهر ربّة البيت سوزانا في عام 1774، وبعد أربع سنوات ربّ الأسرة جون في عام 1778. بعد فترة وجيزة من وفاة من قاما مقام أبويها أو أسرتها التقت بشاب من بني بشرتها يدعى جون بيترز وهو بقّال من أصول أفريقية، كان يعيش في ظروف قاسية ولقى اثنان من أطفالهما الموت بسبب الفقر والفاقة والعوز.

سُجِنَ زوجها جون بسبب عدم سداده للديون التي تراكمت عليه، ومع قدوم مولود جديد للأسرة تركت فيليس عالم الأدب وصارت ربّة بيت ترعى أمور طفلها وزوجها، صارت خادمة في عقر دارها، ولم تعمل من قبل كذلك. توفيت في 5 ديسمبر / كان الأول 1784 عن عمر يناهز 31 عامًا. ومات ابنها الرضيع بعد فترة وجيزة.

كانت الحرية من أهم الأعمدة التي توطدت بدواخلها وهذا ما دعاها لأن تكتب رسالة إلى القس سامسون أوكوم، تثني على أفكاره ومعتقداته التي تنص على أن الأشخاص المستعبدين يجب أن يحصلوا على حقوقهم الطبيعية في أمريكا. كما تبادلت ويتلي الرسائل مع المحسن البريطاني جون ثورنتون، الذي ناقش ويتلي وشعرها في المراسلات مع جون نيوتن. إلى جانب شعرها، كانت قادرة على التعبير عن أفكارها وتعليقاتها واهتماماتها للآخرين.

من شعر الشاعرة فيليس ويتلي أول كاتبة أمريكية سمراء من أصل إفريقي. On Being Brought from Africa To America by Phillis Wheatley national archives UK Created 1 January 1814 Source Wikipedia
منحت عائلته فيليس تعليما غير مسبوق لشخص مستعبد: يا تُرى ماذا كان اسمها من قبل، قبيل أن تسمى بهذا الاسم الانكليزي وقبيل أن تغير ديانتها، التي ربما كانت الإسلام أو الوثنية؟ ذاقت مذ أن أبصرت عيناها على العالم الجديد مرارة الغربة واضطهاد التغرّب، بيد أنها وبملكاتها الذهنية والعقلية الرهيبة استطاعت أن تحقق طموحاتها، فغدت مع مرور السنين وفي سن يافعة، شاعرة وكاتبة أمريكية يشار إليها بالبنان. عندما استقر بها المقام في مدينة بوسطن تعلمت القراءة والكتابة في بيت العائلة، وانطلقت موهبتها في الشعر والأدب لا تلوي على شيء إلا وتنهم كنوز هذه اللغة الجديدة، وتلك العلوم المتعددة التي تعلمتها على يد ابنة الأسرة ماري وهي وعمرها 18 عاما كانت أول معلمة لفيليس في القراءة والكتابة. واعترافا بقدرتها الأدبية دعمت عائلة ويتلي تعليم فيليس وتركت العمل المنزلي لعمالها المنزليين المستعبدين الآخرين. ومن شعرها: (لقد جلبتني الرحمة من أرض بلادي الوثنية، علمت روحي الفاسدة أن أفهم، أن هناك إلهًا، وأن هناك مخلصًا أيضًا: ذات مرة لم أسكع للخلاص ولا أعلم. ينظر البعض إلى عرق السُّمْر لدينا بعين الازدراء، “لونهم صبغة شيطانية”).

في عام 1775، أرسلت نسخة من قصيدة بعنوان “إلى صاحب السعادة، جورج واشنطن” الذي عمل كجنرال عسكري آنذاك. في العام التالي، دعا واشنطن ويتلي لزيارته في مقره في كامبريدج، ماساتشوستس، وهو ما قامت به في مارس / آذار 1776. أعاد توماس باين نشر القصيدة في جريدة بنسلفانيا الجريدة في أبريل / نيسان 1776، وفي عام 1779 أصدرت ويتلي مقترحًا لمجلد ثانٍ من القصائد لكنها لم تتمكن من نشره لأنها فقدت رعاتها بعد تحريرها. غالبًا ما كان نشر الكتب يعتمد على اكتساب اشتراكات للمبيعات المضمونة مسبقًا. كانت الحرب الثورية الأمريكية (1775-1783) عاملاً أيضًا. ومع ذلك، فإن بعض قصائدها التي كان من المقرر تضمينها في المجلد الثاني تم نشرها لاحقًا في كتيبات وصحف.

نموذج من شِعر فيليس

في عام 1770 كتب ويتلي إشادة شعرية للإنجيلي جورج وايتفيلد، عبّر شعرها فيها عن موضوعات دينيّة مسيحية، وخصصت العديد من القصائد لشخصيات مشهورة، وكان أكثر من ثلثها يتكون من مرثيات، والبقية الباقية تنطوي عن مواضيع دينية وكلاسيكية وتجريدية. نادرا ما أشارت في قصائدها إلى حياتها الخاصة سواء في الغربة أو في إفريقيا قبل الهجرة إلى عالم العبودية.

أحد الأمثلة عن قصيدة عن العبودية هو “عند إحضارهم من إفريقيا إلى أمريكا، كتب جون سي شيلدز، مشيرًا إلى أن شعرها لم يعكس الأدب الذي قرأته فحسب، بل كان مبنيًا على أفكارها ومعتقداتها الشخصية، تعتقد ويتلي أن قوة الشعر لا تقاس”.

كان لدى ويتلي ما هو أكثر من مجرد التوافق البسيط، وظهر لاحقًا أن تلميحاتها إلى إله الشمس وإلهة الصباح، والتي تظهر دائمًا كما تظهر هنا في ارتباط وثيق مع سعيها للإلهام الشعري، لها أهمية مركزية لا يمكن أن نتجاهلها”.

لقد جلبتني الرحمة من أرض بلادي الوثنية،

علمت روحي الفاسدة أن أفهم

أن هناك إلهًا، وأن هناك مخلصًا أيضًا:

ذات مرة لم أسع للخلاص ولا أعلم.

ينظر البعض إلى عرق السمور لدينا بعين الازدراء،

“لونهم صبغة شيطانية”.

الضربات القاضية من قبل العنصريين

لم يكن توماس جيفرسون، في كتابه ملامح حول ولاية فرجينيا، راغبًا في الاعتراف بقيمة عملها أو عمل أي شاعر زنجي، فكتب ما يلي: غالبًا ما يكون البؤس أصل أكثر اللمسات تأثيراً في الشعر، يكفي ذاك البؤس بين السود أن يكون الدافع، والله أعلم، ولكن لا يوجد شعر أو شاعر بينهم، يوجد إحساس غريب بالحب، شيء من الحماس، لكنه يخاطب ويؤجج الحواس فقط وليس الخيال. لقد أنتج الدين والإنجيل بالفعل شخصية تدعى فيليس، لكنه مهما كان الأمر، فلن يستطيع أن ينتج شاعرًا بأي حال من الأحوال. المؤلفات المنشورة باسمها سلمت من النقد اللاذع بسبب كرام النقاد.

محمد بدوي مصطفى

حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى

ar.Qantara.de 2023

asd

قصة حب وكأنها من قصص ألف ليلة وليلة

يرثي محمد بدوي مصطفى الأنثروبولوجية التشكيلية جريزلدا الطيب (1925 – 2022) ويصف حياتها مع الباحث البارز عبد الله الطيب (1921 – 2003) بأنها شعلة وملحمة في الوفاء والتفاني ونكران الذات.الكاتبة ، الكاتب: محمد بدوي مصطفى

نسخ الرابطمشاركة المقال

الطباعة

توطئة: ما أجمل الوفاء وما أحلى الصفاء في حياة زوجية بدأت في عهد الاستعمار، بين شاب سوداني أسمر وشابّة إنكليزيّة بيضاء. 

استمرت هذه السمفونية المتناغمة بين الأدب بكل أنواعه والجمال والحب والوفاء إلى أن انطفأت نارها في الأيام السابقة بعد وفاة السيدة جريزلدا الطيب في العشرين من شهر مايو عام ألفين واثنين وعشرين. 

كان اللقاء بلندن، مدينة الضباب التي ذكرها في إحدى قصائدها، وربما قبل لقاء الأحباب:

بلندن ما لي من أنيس ولا مالي … وبالنيل أمسى عازليّ وعزالي

قصة حب من طراز ألف ليلة وليلة

نعم نشأت قصة حبّ دافئة، هادئة، تحفها أمواج محيطية هادرة، وكانت تنتظرها عواصف لا يعرفان من أين ستأتي. نعم، زمن ساد فيه المستعمر وصال وجال في بلدان الدنيا، لا سيما في بلاد العرب وفي أفريقيا. 

في ذاك الزمن تصوروا يا سادتي مدى النظرة الدونية تجاه هذا الشاب، تجاه بلده، أصلة وفصله، لا سيما وأن السودان ظل فترة طويلة تحت حكم الإنكليز. لكن لم يبطر هذه السيدة التي رحلت عنّا خلال الأيام الماضية، مدام جريزلدا الطيب، أن تدافع بصلابة عن هذا الحب لكي تشتعل جذوته، وأن تصون هذا الوفاء لزوجها بعد أن حققت هدفها بالاقتران به، وأن تقدس علمه وعبقريته، وتحترم أهله ومسقط رأسه، داره ومحيطه، حتى وكل الأشياء الجميلة التي أحبها في تلك الدنيا التي أفنى روحه في النهل من معين العلوم فيها. أليسه قمّة الوفاء والصفاء؟

الوفاء والصفاء والمشاعر الطيبة

وعلاقة الزوجين، عبد الله وجريزلدا، بدأت من أول وهلة قوية، صلبة ودافئة مملوءة بالمشاعر الطيبة والأحاسيس الجميلة ولم تفتر هذه العلاقة مع مضي السنين ولم تبهت مع مضى الحقب والأيام لسعات الدهر المستمرة، وكانت أبعد أن تصبح سرابًا، لأن عروتها الوثقى كانت أوله وآخره، العلم والمعرفة والوفاء المتجدد وفوق هذا وذاك الحب في الله وفي العلم، ذاك لعمري الحبّ الصافي كصفاء الأنفس الجليلة بكل تجلياته، انفعالاته وتصوراته.

والحقيقة أن العلاقة بين الزوجين يحكمها مقدار الوفاء والإخلاص بينهما، والوفاء رغم أنه خلق إنساني حثت عليه كل الديانات والأعراف والفلسفات، بيد أنّ الواقع المعاش في الدنيا من حولنا غير ذلك، فقد أصبحت هذه القيمة عملة صعبة وقيمة نادرة الوجود.

وعلى العموم فعندما يكون الوفاء بين الزوجين متأصلاً، فستتحول هذه القيمة المضافة دون أدنى شكّ إلى حق مشترك بينهما؛ لأنه يجسد إحدى الدعامات الأساسية لاستقرار البيوت ويقضي باستمرارية سعادتها ونشر كل هذه القيم الجميلة في محيطها، فقد كان كذلك، فلقد كان محيط السيدة جريزلدا والبروفسور عبد الطيب روضة من رياض الأنس والمحبة لكل من عاشرهما من الأهل والأصدقاء والأحباب. 

فلقد كانت معارفهما كبيرة ومحيطهما الاجتماعي واسع القطر مما أضفى على حياتهما شيئا يمكن أن نسميه وطنا متحركا في أي مكان حلّا به. فالوفاء تحقق بقوة بين هذين العلمين والزوجين المحبين، لعدّة أسباب، منها يمكن ذكر أن العلاقة كانت بينهما منذ البداية سليمة وراسخة، تأسست على قاعدة العلم والمعارف الراسخة، بين الأدب والفن والشعر والموسيقى، وكانت هناك بلا شك قيم أخرى أضفت على حياتهما في كل حلّهما وترحالهما، في السودان، لندن، بلاد المغرب العربي، ما كان جديرًا أن يرسخ الكثير من القيم المذكورة أعلاه، كالحب الصافي والإيمان الوثيق بالآخر، بما جعل حياتهما مليئة بالسعادة الحقيقية والاكتشاف المتجدد للنفس وللآخر وللزمان والمكان. 

ومن علامات وفاء جريزلدا لزوجها العالم العلامة والحبر الفهامة البروفسور عبد الله الطيب كانت التضحية المنقطعة النظير في العيش بعد وفاته في سودان صار العيش فيه صراعا، وتغيرت ملامح البلد والناس على حد سواء، وكانت متجلدة ولم تعرف غير ذلك بين أهلها وأصدقائها، متلحفة الصبر وشاحا وصانت سيرة زوجها بالعفة في عدم إفشاء سره والذكرى الحسنة بعد فراقه، وحفظ ممتلكاته، وإفشاء سيرته العطرة بين محبيه وتلاميذه وزملائه. فكانت نعم الزوجة ونعم المعلمة ونعم الأم للكثيرين من أبناء السودان.

حديث صادق صدوق لصديق لهما

وفي حديث لمعالي السيد السفير عبد الله الأزرق تعرفت على بعض الملامح من هذا الحب وهذا التحدي الكبير الذي واجههما وهاكم ما أدلى به سعادة السفير:

(اقتباس)

نَزَلتِ عَلى الكَراهَةِ في مَكانٍ * بَعُدتِ عَنِ النُعامى وَالشَمالِ

بِدارٍ كُلُّ ساكِنِها غَريبٌ * طَويلُ الهَجرِ مُنبَتُّ الحِبالِ 

محزونون لأننا نعلم أن:

أفجعُ مَنْ فَقَدْنا مَن وَجَدْنا

قُبَيلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ

البريطانية جريزلدا الطيب والسوداني عبد الله الطيب - مصدر الصورة: غلاف كتاب: العثور على الذات الأخرى. Griselda AT-Tayib aus Großbritannien und Abdullah AT-Tayib aus dem Sudan - Bildquelle: Buchcover von Finding the Other Self
عبد الله كان يبادلها حُبّاً بحبٍّ وإجلالاً بإجلال: في حديث للسفير عبد الله الأزرق قال: أحبت جرزلدا عبد الله الطيب على كرهٍ من أبيها وأمها – أول الأمر – وهو الذي حَجّ الحجيج له سِرَاجٌ لَدَى الظَّلاَمات جِدّ مُنِيرُ. يقول السفير: قالت لي: إنها ألَحّت عليهما لتزويجهم إيّاه. وكانت العنصرية جد فاشية في بلاد الإنكليز آنئذ، ولما رأته أمها أول مرة من الشباك وهو داخل على منزلهم قالت إنه (like a murderer) يُشبه القتلة. هذا ما روته لي بنفسها وهي تضحك. وقالت لي إنها وهي قادمة للسودان أول مرة بالسفينة سألتها إحدى زوجات الإداريين الاستعماريين في كينيا عن سبب سفرها للسودان، فلما أخبرتها أنها ذاهبة للالتحاق بزوجها السوداني، نظرت لها الخواجية باشمئزاز وقالت لها: هذا مُقَزّز (Disgusting). لكنها أحبت ذلك العبقري ورأت فيه ما لم يرَ الجهلة من قومها، وقد صدق حدسها ولم يخيِّب ذلك الحبرُ لها رجاءً. أخبرتني مرّة أن العالم المستشرق الذي كان يشرف على عبد الله في الدكتوراه في جامعة لندن، قال له: أنت أعْلَمُ مني. وكان عبد الله يبادلها حُبّاً بحبٍّ وإجلالاً بإجلال. وجوهرة هو اسمها بعد أن أسلمت.

أحبت جرزلدا عبد الله الطيب على كرهٍ من أبيها وأمها – أول الأمر – وإنَّهُ

والذي حَجّ الحجيج له سِرَاجٌ لَدَى الظَّلاَمات جِدّ مُنِيرُ.

قالت لي: إنها ألَحّت عليهما لتزويجهم إيّاه. وكانت العنصرية جد فاشية في بلاد الإنكليز آنئذ، ولما رأته أمها أول مرة من الشباك وهو داخل على منزلهم قالت إنه (like a murderer) يُشبه القتلة. هذا ما روته لي بنفسها وهي تضحك. وقالت لي إنها وهي قادمة للسودان أول مرة بالسفينة سألتها إحدى زوجات الإداريين الاستعماريين في كينيا عن سبب سفرها للسودان، فلما أخبرتها أنها ذاهبة للالتحاق بزوجها السوداني، نظرت لها الخواجية باشمئزاز وقالت لها: هذا مُقَزّز (Disgusting). لكنها أحبت ذلك العبقري ورأت فيه ما لم يرَ الجهلة من قومها، وقد صدق حدسها ولم يخيِّب ذلك الحبرُ لها رجاءً.

أخبرتني مرّة أن العالم المستشرق الذي كان يشرف على عبد الله في الدكتوراه في جامعة لندن، قال له: أنت أعْلَمُ مني.

وكان عبد الله يبادلها حُبّاً بحبٍّ وإجلالاً بإجلال، وكتب: “وقد تزوجت زواجاً أنا عنه راضٍ”.. وكانت نِعم الزوجة، التي لم تُوقف حبها لعبد الله عليه وحده، بل أشاعته ليعم أهله المجاذيب كلهم. فرَبّت أنجال أخواته، حتى:

شَبّوا على أسمى الخلال وكاثروا*

أسنى الرجال بما نمت أيديك

طابت سرائرهم وراع ذكاؤهم *

وبنوا فخاراً ليس بالمأفوك.

وهم اليوم وقد فارقوك يذرفون دمعاً سخيناً ويدعون:

سَقى مَثواكَ غادٍ في الغَوادي *

نَظيرُ نَوالِ كَفِّكِ في النَوالِ.

وكأنّي بهم يبكونكِ وهم يتأوهون: 

أيظلُّ كأسُ الحبِّ يا أمّأهُ *

يروي شاربَه؟

أيظلُّ يدفقُ بالحنانِ* 

وإن عدِمنا ساكبَه؟ 

طبتِ حيّةً وميتةً يا (جوهرة).. وهذا اسمها بعد أن أسلمت.

كانت بيني وبينها محبة ومودة. تزورنا في بيتنا وأزورها. وحين ألتقيها تُشعرني كأنها أمّي، وتقول لي بكل الدفء والحنان: “عبد الله والله مشتهياك…. يااا حليلك”..

وكم من مرّة شرفتني بأن أهدت إليّ لوحاتها.

جئتها مودعاً وأنا مغادر لدبلن سفيراً، فقالت لي بأسى: “تاني الببقى في راسنا منو”!!!

إنني حزين أن أكون: 

أَوَّلُ الناعينَ طُرًّا * 

لِأَوَّلِ مَيتَةٍ في ذا الجَلالِ  

كَأَنَّ المَوتَ لَم يَفجَع بِنَفسٍ *

وَلَم يَخطُر لِمَخلوقٍ بِبالِ  

صَلاةُ اللَهِ خالِقِنا حَنوطٌ *

عَلى الوَجهِ الـمُكَفَّنِ بِالجَمالِ  

كانت جرزلدا خير شريك وخير معين لعبد الله، فحين ترجم الأحاجي السودانية في كتابه Stories from the Sands of Africa)) عام 1965، رسمت على صفحاته لوحات توضيحية لفاطمة القصب الأحمر، وللغول ولغيرها من أساطيرنا، ورسمتها كما نتصورها نحن.

وكانت الضابطة لبرامجه ومواعيده، وما أحسب أنه لولاها لما شَعّت عبقريته. وحقيقة لم أرَ وفاء وإخلاصاً كذلك الذي كانت تُكِنه جرزلدا لعبد الله الطيب، رحمه الله.

بعد وفاته قالت لي: أنا مُتّ مرتين، مرة يوم وقع عبد الله بالجلطة ويوم توفي.

كان جلال حريز، رحمه الله، يزورها، وكان يفصل منزله عن منزلهم شارع، وهو زوج لبنتنا الأستاذة آمنه بشير مدني، وكان عبد الله طريح الفراش، وكان معجباً بإخلاصها في ممارضته. أذكر أنه قال لي: “والله لو في زول بحيي الموتى لأحيت جرزلدا عبد الله الطيب”.

وكما كان عبد الله واصلاً لأهله المجاذيب، فخوراً بهم، يَتَرَنّم:

وقد سمى ببني المجذوب أنّهمو

أهل البيان وأهل العِلم والفكرِ

لا يأخذون جرايات الملوكِ وما ذُلّوا

وما حدّهم يوما بمنكسرِ

كذلك كانت جرزلندا بهم فخورة أيضا. فكانت تزورهم وتفقدهم في الدامر وفي سواها، وظل بيتها مثابةً لهم، حتى بعد وفاة عبد الله.

زارتني مرة بلندن وأنا سفير بها، وقالت لي: “شفت الإنكليز المجانين ديل… قالوا لي أنتِ راجلك مات البقعدك في السودان شنو؟ البِجيبني هنا شنو….. أنا بيتي ملان”!!!

يا لهذا الحب والوفاء!!! 

تقول جرزلدا هذا رغم أن الملكة قلدتها وساماً.  

وتقول هذا ونحن نريد أن نهرب منه لبلاد جرزلدا!!!

ودُعِيَتْ مرةً لاحتفال لتكريمها، فطلبت من منظمي الحفل دعوتي وقالت لهم: “السفير الأزرق ده قريبي”…

نعم.. قالت لهم: “قريبي”!!!

وهكذا كانت تنسب نفسها للمجاذيب، وتذهب لقبر الشيخ المجذوب تدعو له وتترحم عليه.

هامت جرزلندا بالسودان حُبّاً، فوثّقت تراثه بمقالات نشرتها، مثلما وثقته بلوحاتها.

وأنا بدبلن أرسلت لي آخر كتبها في هذا الفن والذي كان موضوعه: Regional Folk costumes of the Sudan والذي زينته بلوحاتها عن “القُرباب” و”الفِدَو” و”الزُمام” و”الحجبات” وثيابنا وملابسنا التقليدية، التي كدنا ننسى بعضها.

أرسلته اتصالاً بحبها لأهلها المجاذيب.

قاربت جرزلدا المائة من عمرها، وظلت كل عمرها شعلة متقدة النشاط.

ومنذ كانت فتاةً كانت

تبني المجدَ ما فاق تسعينَ حجة

وكانَ إلى الخيراتِ والمجدِ ترتقي. 

وظلّت:

حَصانٌ مِثلُ ماءِ الـمُزنِ فيهِ *

كَتومُ السِرِّ صادِقَةُ الـمَقالِ.  

حدثني السفير حسن عابدين أن عبد الله الطيب التقاه مرة في الجامعة -ولعل ذلك كان حين كان عبد الله مديرها- وسأله عن أداء جرزلدا التي كانت تُحضر لدرجة الماجستير معهم. قال له حسن عابدين: “كويس ….. بس الغريبة يا بروفسور إنها مرات بتغلط في الإنكليزية”!! فردّ عليه البروفسور: “يعني شنو…… إنت ما بتغلط في العربي؟”.

قال لي حسن عابدين: والله لم أسمع رداً صاعقاً كهذا، ولم أنتبه إلى أنني أخطئ في العربية إلّا ذلك اليوم!!!

وبعد يا جوهرتنا الخالدة:

السودان الخرطوم 2014 Sudan khartum 2014 Foto DW
هامت جرزلندا بالسودان حُبّاً فوثّقت تراثه بمقالات نشرتها مثلما وثقته بلوحاتها: لم يكن من الشيء الغريب أن يتصدر خبر رحيل جريزلدا الطيب مواقع التواصل الاجتماعي في السودان والوطن العربي، خاصة لقصة حب خارقة للعادة جمعت بين الزوجين لعدّة عقود، ملحمة أو أغلب الظن سمفونية مليئة بالوفاء والود والمحبة ونكران الذات، قلّ أن تجود بها صحائف التاريخ. قصة وكأنها من قصص ألف ليلة وليلة. لقد تركت المرحومة بلدها، أهلها ومحيطها الاجتماعي والثقافي من أجل هذا الرجل، عبد الله الطيب، علامة السودان، وأحد علمائه الأفذاذ.

اعلمي أننا نحبك وأنت في دار الخلود، كما أحببناك في هذه الفانية التي لا تُبقي على أحد، ولا يدوم على حالٍ لها شانُ.

شكراً جرزلدا لأنكِ احتملتينا بكل ما فينا من فوضى، ورغم قيظ صيفنا وكتاحتنا وكُوَشِنا. وثِقي أن كل واحد من آل المجذوب يقول لك:

فلا واللهِ لا أنساكَ حتى *

أُفارِقَ مُهْجَتي ويُشَقُّ رَمْسي.

وفي ذمة اللَه اغنمي نعماءه *

أجراً فما غير الخلود يفيكِ.

ورحمة الإِلهِ إِلهِ العِبادِ وَأَهلِ البِلادِ عَلى جوهرة.

(نهاية الاقتباس)

خاتمة: لم يكن من الشئ الغريب أن يتصدر خبر رحيل جريزلدا الطيب مواقع التواصل الاجتماعي في السودان والوطن العربي، خاصة لقصة حب خارقة للعادة جمعت بين الزوجين لعدّة عقود، ملحمة أو أغلب الظن سمفونية مليئة بالوفاء والود والمحبة ونكران الذات، قلّ أن تجود بها صحائف التاريخ. قصة وكأنها من قصص ألف ليلة وليلة. لقد تركت المرحومة بلدها، أهلها ومحيطها الاجتماعي والثقافي من أجل هذا الرجل، عبد الله الطيب، علامة السودان، وأحد علمائه الأفذاذ.

وكانت لـ جريزلدا الطيب، كلمات مؤثرة قالتها بعد وفاة زوجها الأديب السوداني عبد الله الطيب حينما أبدت أسفها على عدم التقدير اللازم الذي واجهه الراحل خلال فترة حياته في السودان. واعتبرت أن البروفيسور تم إقصائه لأهداف غير معلومة، وأكدت أنها أهدته عمرها وشبابها وضحت بأهلها وديارها من أجله، وحفرت قبرها وسورته بجواره، حتى تتعلم البشرية معنى الحب والوفاء.

 محمد بدوي مصطفى

حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى / موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de